TOP

جريدة المدى > المنتدى العام > قتل متواصل!

قتل متواصل!

نشر في: 21 فبراير, 2012: 08:07 م

جاسم العايفأكتب عن أخي ، قتيل أواخر شتاء 1987. أكتب عنه ، لا لأنه أخي فقط ، بل لكونه نموذج جيل كامل منتهكٍ ، و أعقبته أجيال ، غُيّبت في حروب خاسرة وعبثية ، ولا معنى أو ربح لها، حروب فعلتها النزعة العدوانية المتجسدة بثقافة التخلف والهمجية القروية الجرداء، وقيمها الدونية،
 المستهينة بالحياة الإنسانية، والمتشحة بالنظرة العنصرية  والقومية الكاذبة وضيق الأفق السياسي، متوهمة القوة ومنطقها كحل وحيد لأزمات ومشاكل البلدان والشعوب المتجاورة منذ آلاف السنوات. وبالقوة وحدها حكم على مئات الآلاف من شباب العراق، لأن يتحولوا وقوداً لحروب متواصلة ،سحقتهم وسرقت آمالهم وحيدت قدراتهم في البناء وأجهزت على أحلامهم، وأحدثت خللاً وتمزقاً في الحياة الاجتماعية- العراقية وقيمها المدنية السلمية الراقية ، من خلال النزوع الفعلي لتكريس قيم العسكرتاريا وعنف جنرالاتها الفاشلين والمهزومين والذين لا يجيدون غير حوار البنادق والمدافع والراجمات والدبابات والصواريخ وعشوائية  زرع الألغام وهندسة  الخراب وتعميم الفناء . راهنين الوطن وتاريخه المضيء، وكل ما له علاقة بالحياة والوجود الإنساني تحت سطوة وقسوة وبشاعة ووحشية آلة الحروب القاهرة الجبارة البربرية المدمرة. أخي  الصغير هذا الذي حقق حلم أمي، العراقية الأمية النواحة الدائمة ، و سألتني ما هذا؟ . كنا في طريقنا نحو الفاو. مؤشرة باتجاه مجمع كليات باب الزبير العائد إلى جامعة البصرة، وبعد أن أوضحت لها ذلك، ردت، داعية ومتشفعة  ومتوسلة بصوت أبح: "أتمنى دخول ابني من هنا" وهي تنظر نحو باب مجمع الكليات الواسع . دخل أخي منه وكان بانتظاره أنشوطة القرار 200 وتعديلاته والذي يُحرّم على العراقي ، الانتماء أو تأييد أي جهة ما، إلا حزب البعث ومنظماته فقط ، والذي وضعوه حول رقابنا بالإكراه لأن نبصم عليه.دخل أخي ذلك المجمع، كما تمنت  ودَعت له أمي، وبعد كد وكدح خرج متخصصاً ومتفوقاً بإدارة الأعمال والمخازن، وسيق مع بدء تخرجه إلى الخدمة العسكرية وجحيمها المقصود. كان يأتي معفر الجبهة محترق الوجنة من لفح شمس الجنوب ورمال صحراء الزبير، متورم القدمين، ممزق الملابس، مسلوب الإرادة، قائلاً بأسى وانكسار: " ألا توجد طريقة أخرى لخدمة الوطن وعلمه سوى هذه الطريقة المهينة..؟!" .وبعد أن أتم ما عليه، عينته دائرة الخريجين في (دائرة .....) إلا أن مديرها، عضو فرع حزب القتلة في ذلك الوقت، رفضه ورفض شهادته العلمية الموثقة المصدقة، ورفض معه خدمة العلم والوطن وجنسيته ومواطنته العراقية ، كونه ليس بعثياً ولا من عائلة بعثية ، و دائرته التي ورثها عن سلفه (عفلق) مغلقة تجاه غير البعثيين . لأشهر بقي أخي منتظراً حتى حصل على مكان له في دائرة حديثة التكوين، وعمل أمين مخازن بكل جد وتفان وإخلاص. وكانت نزاهته وعفته وخلو يده وسلوكه مما يعيب، فخرنا.   كان حرصه على المال العام ونظرته المشوبة بالإجلال له ولعائديته الاجتماعية، تسبب لأخي النكد والأذى والجور ، خاصة مع مَنْ بات يسيطر وتلاعب به بسبب (الحزبية) ، وانحاز إليه مديره ، ذو الشهادة العالية والمتخصص بهندسة البناء والإنشاءات، لأن الرجل- هرب بجلده  بعد منتصف السبعينات، ومات كمداً على وطنه وناسه ودفن في مقابر العراقيين الغرباء - كان عفيفاً وذا قيم نادرة ، في زمن بدا فيه انهيار القيم واضحاً ومؤشراً على الانحدار نحو الهاوية والتردي . لم يترك صدام، أخي، ولم يعبأ بأمانته وعفته، وساقه إلى خدمة الاحتياط للمرة الثانية قبل حرب عام 1980 بشهرين، وظل ينتقل من مكان ومن موضع ومن حفرة  وخندق ، طوال سنوات الحرب، يخبئ حياته وأحلامه وآماله وأسرته الصغيرة، التي كونها حديثاً، متحاشياً الموت الذي كاد أن يهم به في كل لحظة، ثم مزقت جسده قذيفة حرب، ولم تسأله تلك القذيفة إن كان بعثياً أم لا !. حينما أمسكت به، صباح يوم بارد ممطر، ووضعته في حفرة ، بلا ساق ولا يد، مهشم القفص الصدري، مُدمى الوجه،استذكرت بكاءه المتواصل يوم أجلسته على رحلة الصف الأول ، بعد منتصف الخمسينات . ترى أكان كذلك باكياً عندما أهلت عليه التراب في مقبرة وادي السلام بالنجف؟! و خلفته وحيداً إلا من صلاة الوحشة، التي دفعت ثمن قراءتها لقارئ مجهول عجول، و بعد أن سجل اسمه واسم أمي في ورقة محتشدة بالأسماء والهوامش، اختفى  فجأة وخلفني  مخذولاً وتائهاً بين غابة التوابيت العراقية القادمة صباحاً من الجبهات. هل تحدثت عن أخي فقط أم عن أخوة  وأبناء  وأزواج  وأحباء ملايين العراقيات والعراقيين و الذين سد النظام البعثي أفقهم من جميع الجوانب وفرض عليهم التعاسة والشقاء مكرساً وجودهم اليومي ودفق حياتهم وشبابهم لمحارق الفناء في حروبه المتواصلة؟.. قتلى بمنتهى العلنية والمجانية ،وإذ يرقدون الآن في مقابرهم ن رقادهم الأبدي هذا لم يكن إلا الشهادة القاسية والحقيقية على زمن تميز بالتواطؤات الإقليمية والدولية، غير عابئ بنا- حتى اللحظة- وبقتلانا  الجدد في الساحات والأسواق ومناطق سكننا ومزادات مكتباتنا و بيع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

كاريكاتير

كاريكاتير

ميثم راضيميثم راضي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram