مازن الزيدينادرة جدا تلك الأيام التي تبقى محفورة في عقل المرء وتعيد تلميع ذاتها كلما تقادمت أو اقتربت ذكراها من دون الحاجة للتذكير فهي تحمل في باطنها منبّهاً بيولوجياً لا يوقفه الزمن أو تعب الذاكرة. اقل من ذلك المناسبات التي تنخرط فيها مع الناس رغما عنك وكأن يدا خفية تجرك جرا للتماهي مع الجموع في مناسبة فرح او حزن او حتى نوبات غضبهم.
شخصيا انتابني هذا الشعور في يومين فقط من ايام حياتي، الاول كان في 9 / 4/2003 تاريخ سقوط الديكتاتور، اما الثاني فلم يكُ سوى يوم 25/2/2011 وسط ساحة التحرير . يومان سيحتفظان ببريقهما الأخاذ في ذاكرتي برغم ما قد عكرهما من احباطات ويأس وبؤس!لن أنسى ذلك اليوم النيساني الذي خرق قوانين الفيزياء عندما اجتاحتني الرغبة بالطيران فرحا، اذكر يومها كيف عجز 28 حرفا، مجموع أبجدية العرب، عن احتواء غيمة الفرح التي امطرت ارواحنا بعد طول انتظار.. مطر تصورنا انه سيتمخض عن تحقيق احلامنا في اعادة ترميم ما تخرب من بلدنا بل حتى ارواحنا.الحلم ذاته هو الذي دفعني للحاق بآلاف العراقيين للوصول الى "نصب الحرية"، منذ ساعات الفجر الاولى ليوم الخامس والعشرين من شباط الماضي، وهم يهتفون للدفاع عن احلامهم التي اجهضتها عملية سياسية بان فسادها وانكشفت عوراتها على تخوم المنطقة الخضراء التي استعانت بكتل الكونكريت."لدي حلم" شعار ردده الآلاف يومذاك في بغداد المحاصرة بجو من الرعب والترهيب، المادي والمعنوي، قل ان شهدناهما الا في عهود الاستبداد والقمع. لم يك ثمة "مارتن لوثر كنغ" يخطب امام الجموع في الساحة بل كان الجميع لوثريين، الكل كان هناك يخطب والكل كان يستمع في لحظة تجلٍ فريدة لحقيقة روح هذا الشعب المسالم.الحلم، ببلد يحمي كرامة الإنسان العراقي المهدورة منذ عقود، الذي طرنا له فرحا في 9 نيسان كنا نندبه وهو يحتضر في ساحة التحرير تحت رصاص وعصي "جيشنا الباسل" و"حكومتنا المنتخبة" اللذين تفننا بانتهاك ما تبقى لنا من كرامة واحلام بعضها متواضع جدا.شباب وشيوخ يقطعون الكيلومترات مشيا على الاقدام بعد حظر التجوال المفاجئ وغير الرسمي الذي فرضته عمليات بغداد لمنع الوصول الى الباب الشرقي .. أصواتهم لا تدع مجالا لـ"متخاذل" او خائف او حتى للفضوليين للتخلف عن المشاركة والتفرج على انبعاث هذه الروح الحية من جديد. انه اغراء من نوع اخر لم يسبق للكثير منا ان تعرض لمثله، فقد كان من النوع الذي لا يقاوم.لا تملك سوى الانقياد لهذا الاغراء برغم ما يحف به من مخاوف ومخاطر اودت بحياة العشرات من العراقيات والعراقيين على طول ساحات التحرير قتلا وضربا وإذلالا..انت الذي خرجت بدافع الفضول والفرجة تسحرك الجموع بالهتافات التي اطلقتها، والعيون الحالمة بغد افضل كيف كان بريقها يدعوك، كأي مفلس او متشرد، لالتقاط الأمل الذي حملته آنذاك.لن تحتاج لكي تدخل في الدور لقراءة اي نص ولن تنتظر اشارة اي مخرج يقف خارج "اللوكيشن"، انها نوع من الدراما النادرة التي تنعدم فيها اهمية دور البطل والكومبارس فالكل سواء في اهمية الادوار التي أدوها بكل احتراف وموهبة.وانا احاول الكتابة عن "يوم الغضب" استذكر جليد الطائفية والاثنية والمناطقية التي اذابتها شمس ذلك اليوم، استعيد ملامح تلك الام التي تحنو على المتظاهرين وكأنها تجد فيهم من يعوضها عن غياب ابنها في السجون السرية، او ذلك المهجّر الذي استعاد الامل بحياة افضل لاولاده الذين لا يجد ما يحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء..مات مارتن لوثر كنغ وهو "يحلم"، لكني قبل عام من الآن كنت شاهدا على مقتل "حلم".
نقطتين شارحة: 25 شباط: يوم قتلوا الحلم
نشر في: 22 فبراير, 2012: 09:29 م