وميض إحسانلم تعد هناك شكوك في أن الدب الروسي لم يستسلم لموجات الصقيع التي اجتاحت روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق، ولم يكن مستغرقاً في سبات عميق داخل كهف تعمّه الظلمة والسكون خلال ما يقارب عقداً كاملاً من الزمن مثلما وقع في ظن الكثيرين، لكنه كان يتطلع من كوّة في جدار الكهف إلى كل ما يجري حوله، ويتحسب لأحواله وأحوال عالم يموج بالمتغيرات.
كذلك لم تعد هناك مسوغات كافية للزهو الأميركي الذي تلبّس رجالات الإدارات الأميركية بعد انهيار المنظومة الشيوعية، الذي أوحى للكثيرين منهم بانتهاء سياسة القطبين في العالم، وأن أميركا باتت القطب الأوحد القادر على تحقيق الحلم الأميركي القاضي بأن يكون القرن الحادي والعشرون قرناً أميركيا خالصاً، حسب تعبير بوش الأب، الأمر الذي دعا احد المساعدين الكبار في إدارة الرئيس بوش الابن إلى القول بعد احتلال العراق في حديث منشور مع مراسل صحيفة ذي نيويورك تايمز مكازين: " لم يعد العالم يعمل على وفق طريقة المجتمع الذي يستند إلى الواقع، إننا الآن إمبراطورية، وعندما نتصرف فإننا نخلق واقعنا الخاص، وفيما نقوم بدراسة ذلك الواقع بحكمة، فإننا نتصرف مرة أخرى، ونخلق وقائع جديدة، هذه هي الطريقة التي سنعالج بها الأمور مستقبلاً، نحن سنصنع التأريخ وسنترك لكم جميعكم دراسة ما سنقوم به". وقد توقفت دول العالم كثيراً عند النتائج السلبية التي ستترتب على هذا الزهو الأميركي، وكانت ثمة بوادر لرؤية أميركية جديدة تمثلت بالسعي نحو استبدال مبدأ سيادة الدول بمبدأ التدخل الإنساني، وهو غطاء للعمل السياسي والعسكري يقضي باستبدال الأنظمة من منطلق أنساني، والمجيء بأنظمة جديدة تتلاءم مع الأهواء والمشروعات الأميركية في أية بقعة من العالم. وقد أدركت القيادة الروسية في وقت مبكر أن النسر الأميركي، بمشروعه الإمبراطوري الجديد، لن يتوقف عند حدود أوروبا القديمة، لكنه سيتعداها ليضم تحت جناحيه روسيا نفسها، وقد بدأت ملامح التعرض الأميركي للأمن الروسي في ضم بعض دول الاتحاد السابق إلى الحلف الأطلسي لتشديد الخناق على الجسم الروسي من الخارج، ومحاولات الإجهاز على روسيا من الداخل، عن طريق تحريك القوى الإرهابية في الشيشان، التي وصلت عملياتها إلى قلب العاصمة موسكو، وتشجيع الجماعات القومية المتطرفة على إثارة النزعات الانفصالية. كما أدركت أن الهيمنة السياسية الأميركية على الدول المحيطة بروسيا، والوجود العسكري المتنامي في الجنوب الروسي والمنطقة العربية، تحول في كثير من مواقعه إلى قوى محتلة بعد حروب عسكرية مباشرة خاضتها أميركا بغطاءات مختلفة، الأمر الذي عدته روسيا محاولة لتطويقها ويهدد مصالحها الإستراتيجية، فضلاً عن طبيعة المخاطر التي يمثلها الوجود العسكري الأميركي على القرار السياسي لدول المنطقة، وبالتحديد على إيران وسوريا، موطئ القدم الوحيد الذي يساعد على استمرار الوجود الروسي في الشرق الأوسط.السياسة الروسية خلال مرحلة الرئيس فلاديمير بوتين انشغلت بالعمل على مشروعين متوازيين، الأول يعمل على بناء اقتصاد قوي يهيئ الأرضية المناسبة لدور سياسي روسي فاعل على الساحة الدولية، يتناسب مع وزن كتلتها البشرية، ويلائم وزنها السياسي، والثاني يقضي باتخاذ خطوات جريئة تساعد على إسقاط مفهوم القطب الواحد وإرساء قواعد عالم بلا قطبية، أو على الأقل عالم متعدد الأقطاب. وقد تجلت قوة السياسة الروسية الجديدة في عدم ترددها في اتخاذ الكثير من المواقف التي تكشف جديتها في التصدي للمشروعات الأميركية، يأتي في مقدمتها الموقف المتحسب لكل الاحتمالات في ما يخص المسألة الجيورجية، وفي سياستها تجاه إيران وملفها النووي، وتزويد سوريا بالأسلحة، وعدم السماح بتمرير مشروع قرار أميركي يدين نظام الأسد جراء استعمال العنف ضد الشعب السوري، وتعطيل صدوره بالصيغة التي أرادتها أميركا. والفيتو الروسي- الصيني الأخير في مجلس الأمن الدولي، يكاد يكون المشهد الأكثر إثارة في سياسة روسيا تجاه المشروعات الأميركية، الذي من شأنه أن يكشف الكثير مما يتفاعل في ذهن القيادة الروسية. إذ أن روسيا والصين قد واجها بصلابة اغلب دول العالم، غير متهيبين من النتائج التي قد تلقي بظلالها على علاقاتهما الدولية مع الكبار، ولا متخوفين على مصالحهما من رد فعل أغلبية العرب، بالتحديد رد فعل دول الخليج العربي التي تبذل معظم دول العالم الكثير من الجهود لكسب ودها المكلل بالاستثمارات والصفقات، كما أن روسيا لم تتخوف من النصائح الغربية، وحتى العربية، بعدم خوض المغامرة والتضحية بنفسها من اجل الرئيس الأسد. ومكمن الإثارة في الفيتو الروسي- الصيني هي اللاءات الثلاث التي أعلنت روسياً عنها مقدماً، لا للتدخل العسكري الخارجي في سوريا، ولا لعقوبات اقتصادية، ولا لتنحي الرئيس الأسد بتدخل خارجي. وواقع الأمر أن روسيا تدرك جيداً أنّ علاقاتها السياسية مع سوريا تتيح لها إمكانية وجود مستمر في المنطقة العربية، وهذا الأمر قد يكون أكثر أهمية من مصالحها الاقتصادية في سوريا، والقيادة الروسية لا تريد أن تكرر السيناريو الليبي وتقع في الخطأ نفسه، عندما امتنعت عن التصويت حول قرار مجلس الأمن الذي أتاح تدخل دول حلف الناتو في ليبيا، والذي تمخض
الفيتو الروسيّ- الصينيّ..حوار الكبار على أرض سوريا!
نشر في: 22 فبراير, 2012: 09:33 م