TOP

جريدة المدى > المنتدى العام > حكمةُ النصّ وطيشُ الطاغية!

حكمةُ النصّ وطيشُ الطاغية!

نشر في: 22 فبراير, 2012: 09:34 م

كريم عبد(إلى الصديق علي فرزات بوجع كبير وأمل كبير أيضاً)الأساطير هي منشأ الأخلاق والفن والمعرفة، وعِبرها بحثَ الإنسان عن البهجة ومعنى الوجود. ومُهمة الأساطير أيضاً إنقاذ الخيال الإنساني من رطانة الواقع، من الكذب والمخاتلات. وإذا كانت الأساطير العظيمة قد نشأت في العراق ومصر وبلاد الشام، فإن بلدانَ هذه المنطقة هي تاريخياً قلب الحضارة الإنسانية.
ولذلك فهي لا يمكن أن تبقى في هوامش العالم وزواياه. ولا يمكن أن تستقرّ إلا إذا كانت في حالة تجدّد، أي منخرطة في مشروع حضاري يجعلها متواصلة مع العالم المتقدم، وإلا فإنها تبقى مضطربة، بل تعمم اضطرابها على مختلف الجهات إلى أن يقرَّ قرارها، فلا يستقر العالم إلا باستقرارها. كانت بلاد الرافدين هي بلاد الأُسود، وكان أباطرة روما يستوردونها لإدارة تلك الألعاب الجهنمية في ملاعبهم الشهيرة. الأُسود تلك الحيوانات الجميلة ولكن المفترسة الرهيبة، كانت تشبه العدالة في الإمبراطوريات والممالك القديمة. فالعدالة في تلك الممالك والإمبراطوريات جميلة لكنها تنطوي على خطر ماحق، فأي خلل يحدث يمكن أن يعيد التصادم إلى الواجهة، وقد يستمر الصراع من جيل إلى جيل ومن بلد إلى بلد لعشرات أو لمئات السنين. وهذا هو سياق نشوء البطل الأسطوري.وسط المخاطر يولد البطل الأسطوري، إذ يكتشف جمال العدالة وهو يواجه رماح الأعداء وبروق الموت وعواصفه. وعندما تقتله المخاطر أو يعجز عن مواجهتها فهو قد يُهزم ويندحر لكن في النهاية تنتصر الأسطورة. حكمة الأسطورة تكمن في الإيقاع والمعنى اللذين يميزان النص. إن انتصار النص هو انتصار الحياة.لم يستطع كلكامش الانتصار على الموت أو الخلاص منه، لكن الملحمة فعلت ذلك. فقد انتصرت على الموت فعلاً، مُخلّدةً توقَ الإنسان وشغفه بالمستحيل، جاعلةً لهزيمته معنىً وإيقاعاً وحكمةً، أي أسطورة. وهنا تكمن المفارقة بين قسوة الزمن ونثريته التي تَهزم الإنسانَ وتبدد ظلاله، وبين هشاشة النص وسطوته التي لا تُردّ، سطوته التي تُعيد للمعنى لمسته الخالدة. هنا تكمن المفارقة بين حكمة النص وسطوته وبين طيش الطاغية ووحشة عرشه الذي يتفكك ليسقط دائماً فهو لا يصلح إلا للسقوط. البطل الحقيقي إذاً، في هذه الملحمة العظيمة، ليس كلكامش الشخص القوي الشكيمة والإرادة والمستبد الرهيب أيضاً، بل هو النص. نص الأسطورة، والحكمة المتولدة والمنبثقة عن جماله الأخّاذ. *****كانت ثقافة الماضي تنطوي على فلسفتها الخاصة، تلك الفلسفة التي نشأت من خلالها الحضارات العظيمة والأساطير التي لا يمكن فهم تاريخ الإنسان وتاريخ المعرفة بدونها. ولا يمكن أيضاً الكشف عن مكنونات الأساطير تماماً، لأن كشف أسرارها يجعلها قابلة للتقليد والتكرار، وبالتالي ستكون نثراً، أي جزءاً من العالم العادي.إن الاستعادة الفجّة لرموز الحضارات القديمة وأبطالها الأسطوريين، التي دأبت عليها الطبقات الحاكمة في العراق ومصر وسوريا منذ خمسينات القرن الماضي، كشفت البؤس الروحي والثقافي لأولئك الحكام مثلما كشفت دائماً عن منعةِ وسرِّ تلك الملاحم والأساطير المتألقة وسخريتها من محاولات تقليدها أو تكرارها أو سرقة معناها وحكمتها. لقد كان العمل الاستعادي لملحمة كلكامش الذي قُدّم في منتصف السبعينات، واحداً من أكثر الأعمال بؤساً، فقد تم سرد وقائع الملحمة بطريقة تخلو من المعنى أو التشويق لتنتهي بخطاب أحمد حسن البكر وهو يعلن (تأميم النفط) لتضجّ القاعة بتصفيق مفتعل لكلكامش الجديد أو كلكامش البعثي!! لقد قُدّمت أسطورة زائفة ملطخة بصوت السلطة ورطانتها.لم يكن العمل دعاية سياسية فقط، وهذا وحده يكفي لقتل أي عمل فني، بل كان أيضاً يستند إلى تفسير خاطئ وشائع للملحمة، وهو الاعتقاد أن أهميتها تكمن في بطلها كلكامش متناسياً أن كلكامش كان مستبداً ينتهك حُرمات الناس وطاغيةً لا تعرف الرحمة طريقاً إلى عقله المضطرب. كان يبحث عن الخلود ليواصل بطشه وجبروته !! لقد كان تاريخ كلكامش هو الجانب المظلم من الملحمة، كان المادة التي تجسّد بؤس الطغاة وسماجة طموحاتهم، أما البطولة الحقيقية فهي للنص وللحكمة المنبثقة عن إيقاعه وأحداثه التي تبدو وكأنها مازالت مستمرةً تَدورُ في مكانٍ ما من هذا العالم. الأساطير الخالدة جميعها تبدو مستمرة، تبدو وكأن أحداثها مازالت تدور في خيالنا أو في مكان ما من هذه الدنيا، ولو لم تكن مؤثرة وأخّاذة إلى هذه الدرجة لما بقيت خالدة. لكن مرايا الدولة المتخلفة تقلب الأمور رأساً على عقب، فتبدو هذه النصوص الرائعة وكأنها الوسيلة المثلى لإنقاذ ديكتاتور رقيع من تفاهته ومن شعوره القاتل بالوحدة  وبالخوف من المصير المجهول.     لذلك وجدنا هذا الشغف في تحويل التاريخ والشخصيات التاريخية والأساطير إلى مادة إعلامية، شائعاً في عراق صدام ومصر مبارك وسوريا الأسد وليبيا القذافي هذا المسخ الذي أراد إلغاء أسطورة عمر المختار فأبعد قبره إلى مكانٍ مُهمَل، لكنه لم يستطع أن يُبعدَهُ عن قلوب الليبيين التي لا تعرف الإهمال حتى وهي مجروحة. لقد خلق الليبيون حكمتهم الفذّة من عشقهم الأبدي للحرية، خلقوا أسطورتهم التي لاحقت الطاغية وانتقمت منه هازئةً بأكاذيبه وقسوته وأشباحه الهاربة.*****إذا كانت شعوب العالم المتقدم تعيش عصراً حديثاً صنعته هي بنفسها، فإن أنظمة

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

كاريكاتير

كاريكاتير

ميثم راضيميثم راضي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram