سرمد الطائيقليلة هي الأخبار الايجابية هذه الأيام، وبين هذا القليل الايجابي نبأ يقول إن الرياض قررت أخيرا أن تنتدب سفيرا إلى بغداد. والسفير سيكون آخر الأشياء السعودية وصولا إلى العراق، فقد سبقه الإعلام السعودي الذي نتابعه يوميا، والتشدد السعودي الذي نخشاه يوميا، والاجبان السعودية التي صارت ضيفا دائما على موائدنا،
بل ومعظم البضائع التي تنتجها المملكة وتجعلنا نتحسر على العراق الذي سبق الجميع في الصناعة والزراعة لكن كل دول الخليج تتقدم عليه اليوم زرعا وتصنيعا وإعلاما وسياسة وكل شيء.وصول السفير سيكون حدثا ايجابيا، لكنه أيضا أمر يثير المخاوف والهواجس. فهل سيصبر على بغداد ومشاكلها وهواجسها ومخاوفها، ليكون عنصر حوار يخفف البرود الطاغي على علاقاتنا، أم مجرد حضور دبلوماسي قد يوتر الأجواء وينتهي باستدعاءات ثم انسحابات وتجميد علاقات، وهو أمر لا نتمناه أبداً؟فقد شاع أن السعودية تمتنع عن إقامة علاقة دبلوماسية بالعراق لان نوري المالكي الذي يرأس حكومتنا "اقرب مما ينبغي إلى طهران"، فهل بات المالكي اليوم "قريبا بمسافة معقولة إلى طهران" التي دوختنا ودوخت المالكي، بقدر ما دوخت الرياض، لو أعجب الأشقاء السعوديون أن يصدقوا رأيا عراقيا؟وللسعودية تاريخيا علاقة متأزمة بأرض السواد، برغم وشائج القربى والدم والتجارة واللغة. وليس للأمر تفسير طائفي مطلق، بل كانت علاقتنا تتأزم منذ العهد الملكي، تارة لأننا اقوى إقليميا مما يجب كما ترى الرياض، وتارة لأننا اكثر رعونة مما يجب كما ترى الرياض، وثالثة لأننا اكثر ضعفا مما يجب تجاه إيران كما ترى الرياض.وحين تقرأ كتاب آخر سفير أميركي في العراق الملكي "العراق تحت حكم نوري السعيد" فإنك ترى علاقة مع الرياض تشبه في توترها ما يحصل مع "العراق تحت حكم نوري المالكي" بفرق أن بغداد الملكية كانت أقوى بكثير من بغداد الحالية. فقد كان صراع السعيد مع السعوديين على سوريا على أشده، نفطا ونفوذا وانقلابات وخطابات.. الخ، ويلقي بظلال ذلك كله على حساسية تاريخية بين الأسرة السعودية الحاكمة، وأسرة فيصل الحجازية الحاكمة في العراق. بينما ظل العراق الحالي متصارعا عليه بين السعودية وسوريا وإيران وتركيا، وارتبط "زعل" السعودية بأن بغداد نوري المالكي "ظلت اقرب مما ينبغي إلى إيران" ولم تحاول أن تقترب من الرياض.وعبر التاريخ كانت ارض الحجاز وما والاها من سهول نجد ومرتفعاتها، مناسبة للتحسر على العراق. فالإمبراطورية العربية خرجت من رحم أسرة قصي بن كلاب الحكيم الذي استطاع إدراك التوازنات الدولية في زمانه، وقام بتغيير خطوط التجارة من العراق والشام إلى عدن والبحر المتوسط، ليخلص تجار ذلك الزمان من منطقة الحروب التاريخية بين الروم والفرس، ويختط عبر الصحراء الصعبة، طريقا لنقل البضائع وتمرير الترانزيت التجاري، لا يتقنه إلا أهل الجزيرة العربية. لكن الإمبراطورية وزهوها وفخرها سرعان ما انتقلت في عصرها الذهبي إلى البصرة والكوفة ثم بغداد، وتركت الحجاز مهملا الى حد كبير، كمجرد معبد يأتيه الحجيج، ولا يبرز فقهاؤه إلا حين يقرأون على شيخ عراقي او شامي او أندلسي لاحقا.وفي السعودية اليوم، فرصة نادرة لتصحيح كل التوتر التاريخي. وفيها عوائل من أصول مشتركة سعودية عراقية، يمتد نفوذها من الصحراء المطلة على الفرات وصولا الى بلدة الزبير التي أسسها النجديون وأهل الإحساء قبل اربعمئة عام، وامتدادا نحو كل مراكز التجارة السعودية. وتلك العوائل ساهمت في بناء المملكة الحديثة، وفي وسعها أن تشترك في بناء العراق او تمتين الأواصر بين البلدين.وهناك مبررات كثيرة كي تتقدم السعودية نحونا بعد أن عجزنا عن التقدم نحوها ونحو الكثير من المناطق المهمة. لكن على الرياض ان تتقبل وضعنا القلق وتتعايش معه وتصبر عليه وتبدي اكبر قدر من الاعتدال حياله. وإلا فإنني لن أتفاءل بوصول معالي السفير إلى بغداد، وسط كل الصخب والسجال والجدل وحمى الربيع العربي التي تجعل أعصاب الجميع في أقصى درجات توترها.. من تنسيقيات دمشق الى حملة "إطلاق اللحى" في صفوف الشرطة المصرية بأثر ثقافي من متشددي الرياض.. الذين نعلم بوجود معتدلين سعوديين ينافسونهم في التأثير، ونأمل أن يبنوا جسورا طيبة مع معتدلين كثر موجودين في بلادنا هذه التي لا تزال "اضعف مما ينبغي" يا سعادة السفير.
عالم آخر: هل يسعدكم وصول السفير السعودي؟
نشر في: 22 فبراير, 2012: 09:45 م