شاكر لعيبيفي دراسة منشورة لنا عنوانها "بحثاً عن رؤية جديدة" نشرناها في مجلة (مواقف) 1991-1992 عن الفنان ضياء العزاوي، ذهبنا إلى القول: "يستحق المرجع (référence) وقفةً. فمرجعية العزاوي محيرة قليلاً ويمكن الزعم أنه من الصعب إلى حد بعيد إيجاد مرجع مباشر وأكيد له،
مرجع في الرسم الأوروبي الحديث وضمن معاييره. وإذا أحال عمله إلى عمل فنان أوروبي فإنه سيُذكِّر من طرف بعيد للغاية ودون وثوقية. تذكير فحسب دون، أيضاً، الإندغام بتلك الفاعلية النظرية والسياق الذي كان الفنان الأوروبي يشتغل فيه". بعد أكثر من عشر سنوات نعيد التأمل بهذه النتيجة، ونحوّرها قليلاً بفعل الزمن والتجربة والخبرة الجديدة: إن تجربة العزاوي تتقاطع إذا لم نقل تتشابه إلى حد مثير مع تجربة رسام أمريكي من القرن العشرين هو ستيوارت دافيس Stuart Davis (1894- 1964). وإذا لم يكن الأمر يتعلق باعتبار الفنّ "جادة وربما وقع حافر على حافر" كما كان المتنبي يقول بشأن الشعر، فإن للأمر أولاً أسباباً موضوعية علينا أن نتوقف عندها.كلا الفنانين يخرجان من انتباه أولي لفن الغرافيك، أي السطوح المستوية قبل أن ينغمرا نهائياً ويتكرّسا لفن التصوير الزيتي. فقد نشأ دافيس في وسط عائلي فني، وكان أبوه فنانا غرافيكياً ومديرا فنياً لصحيفةٍ في فلاديفيا، وأمه نحاتة. اشتغل مع وليم كلاكنس وجورج لوك وجون سلوان وإرفيت شين الذين كانوا يشكلون كلهم جزءاً من مدرسة أشكان Ashcan School. لقد دفع أهل دافيس موهبته الفنية إلى الأمام، فترك المدرسة في سن مبكر ليدرس فن التصوير في نيويورك بإشراف روبرت هنري الذي كان يركّز على الحياة المدينية بصفتها مصدراً للإلهام. حوالي عام 1917 أنتج بعض الأعمال التجريدية ذات الإيقاعات الإجمالية، ومن ثم سلسلة أعمال تقلد الكولاج الورقي وأوراق اللصق.أما الدراسة الأكاديمية الأولى التي أنجزها العزاوي في علم الآثار، حاصلاً فيه على شهادة عام 1962، فكانت تستوجب مقدرة ما على إنجاز أعمال غرافيكية إجمالية تنقل اللُقَى الأثرية على الورقة بهيئة غرافيكية، قبل أن تدرسها وتؤرشفها. طوال سنوات الستينيات ترك، على ما يبدو، هذا النشاط الغرافيكي أثراً واضحاً في المستوى الشكلي في عمله، لإن جزءاً كبيراً من تلك الأعمال ما زالت أعمالاً غرافيكية: أي أنها تتأسس على التخطيط بالأحبار والتلوين لاحقاً بالغواش.إن سياق التطور الذي قاد دافيس إلى أهم أعماله الأربعينية، يتقاطع موضوعياً مع سياقات تطور العزاوي لاحقاً. بعد عام 1913 كان دافيس يود أن يدمج فن التصوير الأوربي الجديد في نسق التكوين والألوان غير القائمة على المحاكاة ويضعها في فضاء تصويري لا منظوري. وهذه العناصر عينها ظهرت في عمل العزاوي بعد سنوات الستينيات. قاد هذا الانشغال دافيس لاحقاً إلى تجربة الكولاج وهو يُدْمج قطع الورق وبعض الأشياء الأخرى في تركيباته أو منفِّذاً بالكولاج لوحته كلها كما في عمله "إضراب محظوظ" عام 1912 وكلها تعود بمرجعيتها إلى المفاهيم الشكلية للتكعيبية التركيبية، من أجل التوصل إلى أسلوب تجريدي صافٍ يتجلى في سلسلة أعماله المسماة (مخفقة البيض) بين الأعوام 1927-1930 ذات المظهر الفضائي الحر والمتحرك.وهذا التطور عينه تقريباً حصل أيضاً في عمل العزاوي بدءاً من نهاية الثمانينيات – بداية التسعينيات وعبره توصل إلى تجريد نقي ذي مظهر فضائي حر، ثم اشتغل على الكولاج بشكل واسع النطاق لكن في وقت متأخر.في سنوات الثلاثينيات تطور أسلوب ستيوارت دافيس وهو يلعب على التضادات الإيقاعية بين المناطق الهندسية ذات الألوان المُسطحة والأشياء المتحدّدة بوضوح في منظور ما. وهنا يمكن أن نجد تقاطعاً آخر بل تشابه كبير لدى العزاوي في اللوحات السبعينية والثمانينية، وما أكثرها، التي نلتقي فيها بمساحات هندسية تتزاوج مع أشياء تشخيصية تطلّ بين فينة وأخرى هنا وهناك.لكن دافيس رسم أعماله الأساسية بعد العام 1945. ورغم أنه بدوره يتقاطع مع التعبيرية التجريدية (مدرسة نيويورك)، فإنه يتفارق معها أيضاً، لأنه كان يستوحي الواقع المدينيّ الذي عالجه بطريقة تُوصف عادة بالقرب من الروح التكعيبية، ومن فن الملصق والإعلانات التجارية وفن البوب. في ألوانه يمكن رؤية إيقاع مكرر يستلهم روح موسيقى الجاز. وبغض النظر عن المنطلقات الجمالية المنهجية والموقف الاجتماعي والسياسي لفن دافيس (في نهاية الثلاثينيات كان منافحاً ضد الفاشية)، غير الموجودة بالضرورة لدى الفنان العراقي، فإن هناك الكثير من المشترك الفعلي الذي يتقاسمه العزاوي مع الفنان الأمريكي، خاصةً لجهة الإيقاع اللوني القائم على مبدأ التكرار والألوان الصافية، والاقتراب من فن الملصق الذي شغف العزاوي به حتى أنه كتب عنه عمله "فن اﻠﺼﻘﺎﺕ ﻓﻲ العراق"، بغداد 1974، متناسياً الأهداف الأيديولوجية المريبة لبعضها، وكتب ملاحظاتٍ عن العديد من الفنانين العراقيين التي تبيّن إعجابه برؤيا الملصقات التي أنجزوها فقال مثلاً عن محمد مهر الدين: "تشعرنا ملصقاته بدهشةٍ مباشرةٍ على صعيد الرؤيا السريعة وتنفتح
تلويحة المدى.. بين ستيوارت دافيس وضياء العزاوي
نشر في: 24 فبراير, 2012: 07:06 م