د. جاسم الصفارفي البداية لابد من التنبيه الى ان موضوعات هذه المقالة لا تشمل ما يحصل في سوريا او اليمن ولا حتى البحرين. لان الاحداث في هذه الدول الاخيرة، وخاصة سوريا، تتميز نوعيا في اهداف محركيها والقوى المعجلة او الكابحة لمسارها وحركتها.
لا ريب في أن مشاركة القوى اليسارية، سواء منها الشيوعية أو الاشتراكية في التظاهرات الشعبية العارمة في تونس ومصر أو الانتفاضة المسلحة في ليبيا، كانت شبه معدومة، وأحيانا مترددة، رغم محاولة شخصيات مغمورة مدعية الانتماء أو التأسيس لليسار في هذه الدول، التسلل إلى وسائل الإعلام وتلاوة بيانات عن دور الطبقة العاملة في الاحداث. نعم لقد ساهمت قطاعات واسعة من الطبقة العاملة وفئات الشعب المسحوقة في هذه الانتفاضات الشعبية، ولكن مساهمتها كانت غالبا بدفع من القوى السلفية، كما أن حجم هذه المشاركة لم يكن متناسبا مع ثقلها الحقيقي داخل مجتمعاتها ولا مع مستوى معاناتها. وهذا يشمل النقابات العمالية أيضا، عدا استثناء يخص تونس، التي كان الاتحاد العام للشغل فيها قوة منظمة وجزءا مهما من الديكور العام للنظام السياسي التونسي السابق. وعلى أي حال فإن مشاركة الاتحاد العام للشغل في تونس في الانتفاضة الشعبية كان على قاعدة "قبل أن تنفق الدابة، أولى بأصحابها أن يتهيأوا لذبحها والاستفادة منها".هناك جانب مهم في هذا الموضوع يتمحور حول القوى الاجتماعية التي شكلت العمود الفقري للمنتفضين. فهي حسب جميع التحليلات، قوى شبابية من الطبقات الوسطى التي لم تجد وليس لها أن تجد في برامج اليسار في تلك الدول أية آفاق واقعية لمستقبلها. هل لي أن أسال هذه الأحزاب والتيارات المحسوبة على اليسار، ما الذي تغير في برامجها على خلفية الانهيار المدوّي للتجربة الاشتراكية السوفيتية؟حسب علمي فإن حزب التجمع المصري اليساري الانتماء، هو الوحيد من بين يساريي الدول المنتفضة، الذي أدخل تغييرات محورية في برامجه، ولكن شعاراته ومواقفه كانت انعزالية ومترددة منذ بداية الانتفاضة!نعم، لقد كانت الظروف معقدة حينها، فالدول العربية الداعمة للانتفاضات منذ بدايتها، هي دول تتناغم في سياستها مع سياسة الإدارة الأمريكية والتحالف الغربي، وما كان لها أن تقدم على تقديم الدعم السياسي والإعلامي والمالي والعسكري دون مباركة أمريكية. ولكن هذا لا يعفي اليسار في هذه البلدان من محاولة اخذ زمام المبادرة في الشارع. بينما نرى أن حزب النهضة التونسي، حسب تصريح العديد من قياداته، فوجئ بتطور الاحداث، ولكنه سارع في اخذ المبادرة بدعم شباب الثورة وجني ثمارها في ما بعد. كما أن الليبراليين الليبيين سارعوا في إسناد الثورة منذ بدايتها، وهم بالتالي اخذوا مواقعهم في الخارطة السياسية لليبيا الجديدة بعد التحرير رغم هيمنة الإسلاميين.قضية احتواء الحدث والتفاعل معه، هي قضية برنامجية بامتياز بالنسبة لليسار. فبدون التشخيص الصحيح لسمات الحاضر في جغرافيته المحددة، تضلّ قوى اليسار طريقها في خطابها للقوى الاجتماعية الطليعية التي يناط بها بناء حاضرها نحو مستقبل أفضل.لقد عودتنا القوى اليسارية والديمقراطية في الدول العربية على البحث في خارجها عن أسباب ضعفها وهوانها لكي تعفي نفسها من أسباب هذا الضعف. فغالبا ما يبرر اليسار أسباب ضعفه بالقمع التعسفي الذي يتعرض له من قبل السلطات وأجهزتها البوليسية. ولكن الدكتاتوريات العربية لم تتردد يوما في سحق أية معارضة مهما كان لونها. بل إنها قد أمعنت في إرهاب القوى الدينية. ففي ليبيا مثلا، كانت آلة القمع مسلطة بالدرجة الأولى على التيارات الإسلامية، أما في مصر فقد كانت هناك قوانين تمييزية ضد الإخوان المسلمين والحركات السلفية، بينما تمتع الناصريون وحزب التجمع بهامش واسع من حرية الحركة والتنظيم!!اليسار بطبيعته، منذ نشأته في عالمنا العربي، قوة سياسية قائمة على منظومة فكرية محددة. والفكر يتطلب منه جهدا كبيرا لتجديده وتطويره مع تطور الحياة ذاتها، وتنسيق برامجه تبعا لهذا التطور. وهذا ليس له أن يحصل في ظل هيمنة نشطاء وقياديين يساريين يمتهنون الحزبية ويكتفون من الفكر بالشعارات والتثوير اللفظي. وللأسف أنه لذات الأسباب نلاحظ بأنه حتى تلك الأحزاب التي حدّثت برامجها، بقيت عاجزة عن إيصال هذا التحديث إلى الشارع وتحويله إلى قوة فاعلة في النشاط الفكري اليومي للناس. وقد زاد إرهاب الحكام العرب للتيارات اليسارية والديمقراطية من تفاقم هذه المشكلة، لأن الذي تعرض للقمع أولاً هم النشطاء الواعون فكريا في هذه الأحزاب كونهم الأكثر انكشافا لقوى الأمن القمعية.ويبقى السؤال الكبير، هل ستعي الأحزاب اليسارية هذا الواقع وتعوض عن خسارتها في كوادرها الفكرية بالاستخدام التعويضي الفعال والصائب لوسائل الإعلام المتوفرة لديها لسد هذا النقص والعودة إلى تقاليد الاشتراكية الديمقراطية بتنشيط الحوارات الفكرية في إطار الهدف الرئيسي، أم أنها ستحول صحفها الورقية ووسائل إعلامها الأخرى إلى إعلام من لون سياسي وفكري واحد خاضع لحسابات، وأحيانا أمزجة قيادييها؟وهذا يقودنا إلى موضوعة الانتماء، وهي موضوعة تأسيسية في تشكيل الأحزاب الاشتراك
لمن تقرع اجراس الربيع العربي
نشر في: 24 فبراير, 2012: 07:44 م