احمد المهنا أيام " عراق صدام"، كانت سفارات البلد مناطق محرمة لكثير من المغتربين، ومنهم المعارضون، وأصحاب الرأي، وطلاب السلامة من النائين بأنفسهم عن الشر. وكان خلق الله من حولنا يستغربون فينا هذه الحالة. انه مظهر من مظاهر الحدة المتأصلة في عاداتنا الاجتماعية وتقاليدنا الفكرية. فصدام ليس وحده السبب. ولطالما قيل أن ظواهر السياسة والمجتمع لا تفسر بسبب فريد. وهذا القول تصح فيه، وربما وحده، عبارة " مما لا يختلف فيه إثنان".
ولعل غياب تقبل الإختلاف، ونقص الشعور الوطني، بين اسباب ظاهرة " الحدة" في الرأي والسلوك.ولو ألقينا نظرة على القوى السياسية صاحبة الأثر على المصير في العراق، من أربعينيات القرن العشرين الى نهايته، لوجدنا انها لم تتقبل الإختلاف بينها، ولا شعرت شعورا أصيلا بإنتمائها المشترك مع " الآخر" الى فضاء واحد ، هو الوطن. الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار هم أصحاب الأثر في تلك المرحلة. وجميعهم لم يتفهم اختلاف بعضهم عن بعض، ولا شدهم الى بعض رباط الوطن والوطنية، وكان بينهم "ما صنع الحداد" على الدوام، حتى في أوقات التقارب بينهم، أو ما ظهر أنه كذلك، في حين أنه كان في الواقع هدنة تتلو وتسبق جولة قتالية أو " إجتثاثية".وعندما بلغ التصادم بين الحركة الوطنية والنظام الملكي ذروته، وقررت الأولى إسقاطه، كان القرار على درجة رهيبة من الحدة: تصفية الأسرة الملكية. لقد ألقيت مسؤولية تلك المجزرة على عاتق ضابط، وأعيد اقترافها الى لحظة " خروج عن الطور". أما " الحقيقة"، فهي ان الحركة الوطنية اتخذت قرار التصفية قبل تنفيذه بسنة. ذلك ما أكده لي مصدر حسن الإطلاع، ومقرب من رؤوس الحركة الوطنية، هو المعماري رفعت الجادرجي.ولكن على فرض تعلق أمر المجزرة بشخص وبلحظة محمومة، فماذا عن " تمليخ" جثتي الوصي والباشا، ودوران الجماهير بأوصالهما في الشوارع؟مجزرة الرحاب كانت تعبيرا متطرفا عن الحدة العراقية، نتاج رفض تقبل الإختلاف، ونقص الشعور الوطني، وأسباب أخرى. فقد نظر الى المختلف في هذه الحالة كعدو، وتم التصرف معه بأبشع ما يمكن التصرف به مع عدو غريب. مع أنه إبن بلد. إبن بلد قد يكون عمله مخالفا للرأي السائد، ولكنه لا خرق دستور الأمة ولا تجاوز على شريعة الأمم المتحدة.ان ما بين الحركة الوطنية وما بين النظام الملكي كان اختلافا في النظرة السياسية، مماثلا للإختلاف في مصر بين الضباط الأحرار وبين الملك فاروق. وانظروا الفرق!هل تغيرنا؟لنسأل أنفسنا:هل ننظر الى المختلف ( أو الآخر) في المذهب ، نظرتنا الى انسان محترم وإبن بلد شريك في الوطن؟ وهل يفعل ذلك العربي المختلف قوميا عن الكردي وبالعكس؟ وهل نظرة الإحترام وشراكة الوطن نفسها تسم علاقة الإسلامي بالعلماني؟ ثم ، أخيرا وليس آخرا،هل الحكومة، ولأنها رديئة، تستدعي النقد، والفهم والإصلاح والتطوير غاية كل نقد ، أم الذبح، والإنقلاب وحمل السلاح والكره وسائل كل ذبح؟ان خروجنا عن طور " مجزرة الرحاب"، من عدمه، يكمن في إجابات هذه التساؤلات!ولعل تجنبنا " الغش" في الإجوبة يمكن أن يكون أحد سبل تطهرنا من ذلك الطور، إن وجد!
أحاديث شفوية :طور " مجزرة الرحاب"
نشر في: 24 فبراير, 2012: 11:00 م