فريدة النقاشوجه المخرج داود عبدالسيد في فيلمه «أرض الأحلام» قبل ما يزيد على عشر سنوات نقدا لاذعا للمصريين المتطلعين للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، الذين يبذلون أموالا وجهودا مضنية من أجل الوصول إلى «أرض الأحلام» إذ يكون بوسعهم أن يراكموا الثروات ويحققوا السعادة.
ولكن «داود عبدالسيد» حينذاك لم يصور شيئا في «أرض الأحلام» ولم يتناول الحياة الأمريكية من قريب أو بعيد، فبقي على المتفرج أن ينشط خياله ليصنع صورة الأحلام تلك أو يتخيلها على شاكلة الأفلام والمسلسلات الأمريكية التي طالما انبهر بها جمهور البلدان الفقيرة، وتطلع إليها كأمل بعيد المنال، بل أن هذه الأفلام والمسلسلات ظلت ولا تزال المثل الأعلى الأولى للمجتمع الاستهلاكي حيث وفرة البضائع والأموال والحرية.وقد تشكلت لدينا هذه الصورة عن المجتمع الأمريكي لأن الغالبية العظمي من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية التي تتوفر لنا مشاهدتها هي تلك الأفلام والمسلسلات الرائجة والتجارية ذات الطابع الفني الخفيف والاستهلاكي، ونادرا ما يجري عرض الأفلام أو المسلسلات الأخرى على شاكلة «الجذور» المأخوذة عن رواية كبرى تحكي تاريخ السود في الولايات المتحدة الأمريكية والممارسات العنصرية الطبقية ضدهم وكفاحهم الجماعي والفردي ضد هذه الممارسات ومن أجل الحرية وحقوق المواطنة.وعلى ما يبدو فإن الوضع الاقتصادي - الاجتماعي الآن في الولايات المتحدة الأمريكية في أوساط الطبقات العمالية والوسطى لم يعد منبعا للأحلام بعد الأزمة الاقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 2008، وهو عام وصول الرئيس «باراك أوباما» إلى الحكم، وهي الأزمة التي شبهها كثير من المحللين السياسيين بأزمة الكساد الكبير في ثلاثينات القرن العشرين التي بدأت في أمريكا وامتدت للعالم كله.ويقول الكاتب الأمريكي «نيكلاس كريستوف» تحت عنوان «البيض في قاع الطبقات» في جريدة «الهيرالدتربيون» إن الفقر المزمن في أمريكا الآن لا يشكل فحسب تحديا أخلاقيا للولايات المتحدة الأمريكية ولكنه أكثر كثيرا من ذلك ويضيف «ذلك أن تعبير ما تحت الطبقات كان يطلق تاريخيا على فقراء السود، ولكنها الآن بصدد قطاعات من الطبقة العاملة البيضاء وقد انحدرت إلى ما تحت خط الفقر» وهو ما يصفه كاتب آخر بالتداعي بمعنى التآكل، وذلك بعد أن درس مظاهر التفكك الأسري في العائلات العمالية البيضاء مع تآكل قيم الاجتهاد التقليدية في أوساط العمال البيض غير المؤهلين.ويتوقف «كريستوف» أمام قرية «يام هيل» التي جاء منها، وبدلا من الصورة الرومانسية عن الريف يرى للقرية وجها آخر حيث تتكرر فيها الأحزان والآلام التي سبق أن فرقت أسرا أمريكية سوداء قبل جيلين أو أكثر بسبب البطالة والفقر واليأس.وتعد المخدرات كارثة حقيقية في الريف الأمريكي، وقد تسببت في تدمير أسر أصبح لها سجل إجرامي لا يستطيع أفرادها بسببه أن يجدوا عملا، وتجري تربية الأطفال على الفتات ويتشردون بينما تندثر نماذج الأسر التقليدية، حيث نجد أن 44% من الولادات في الأسر القائمة الآن تأتي من خارج الزواج بينما كانت تشكل فحسب 6% في السبعينات من القرن العشرين بعد أن كان قد ثبت علميا أن الزواج الناجح يؤثر إيجابيا على حياة الفقراء أكثر مما يؤثر حتى على حياة الطبقة الوسطى لأن للطبقة الوسطى ملاذات أخرى ساعة المصائب.لقد تضاعفت منذ عام 1968 أربع مرات نسبة الرجال الذين يجري إخراجهم من العمل من أبناء الطبقة العاملة بيضاء وسوداء وأصبحت الآن تصل إلى 12%.وكان ليبراليون قد اتهموا الباحث «دانييل باتريك موينهان» بالعنصرية عام 1965 حين حذر في تقرير له من نشوب أزمة عميقة داخل الأسر الأفرو-أمريكية، وقد تبين لنا الآن أنه كان علي حق إذ أن الأزمة تصيب أيضا أسرا بيضاء من الطبقة الوسطي تسقط من وهدة الفقر واليأس وتفكك الأسرة بينما يتراجع دور الوظيفة كوسيلة للصعود الاجتماعي بسبب انخفاض الأجور وشح الوظائف وبعد أن أصبح 40 مليونا من الأمريكيين يعيشون تحت خط الفقر ومن المؤكد أن هذه الأزمة تنعكس بتفاصيل مشابهة أو مختلفة في كل بلدان العالم الرأسمالي بحكم قوة أمريكا ونفوذها كصاحبة أكبر اقتصاد في العالم، فقد عجزت الرأسمالية عن تجاوز ذاتها فدخلت في أزمات دورية سوف تتكرر.ولكن هذا كله لن يقضي كلية علي الحلم الأمريكي الذي تظل تغذيه الأفلام والمسلسلات.
أرض الأحلام
نشر في: 26 فبراير, 2012: 08:47 م