أحمد عبد الحسين أغنية هابطة أضطرّ لسماعها يومياً، في التاكسي، في المطعم والكافتريا والشارع، يشتكي لنا مطربُها من دفّانٍ يغمز له وهو يدفن حبيبه، في الأغنية مشاعر شوارعية لم تهذّب، رغم أن للمطرب "أو شاعر الأغنية" حقاً في الشكوى إذا كان الدفّان قد غمز له حقاً وهو في ذلك الموقف المشؤوم. وهو أمر لا نملك البتّ فيه، ولذا يبقى الدفان بريئاً إلى أن تثبت إدانته. تلك المشاعر الساذجة، أثارها فيّ قبل أيام مسؤولون، سياسيون وأمنيون، وزراء وبرلمانيون،
ففي يوم الخميس الماضي الذي كان يوماً أسود بكل المقاييس، اشتعل فيه العراق كله تقريباً بلهيب المفخخات والأحزمة الناسفة والعبوات، خرج لنا هؤلاء الأباطرة وهم مجمعون على رأي واحد تقريباً كأنه حوار في فيلم سينمائيّ هابط حفظوه مطولاً إلى أن أصبحوا يرددونه دون فهم، الرأي يقول: "إن هذه الأعمال الإرهابية يريد أعداء العملية السياسيّة من خلالها التشويش على القمة العربية المرتقبة المزمع عقدها في بغداد". قالها وزير لم نلحظ له من قبلُ تصريحاً حول عمل إرهابيّ أبداً، كما قالها رئيس الوزراء، ونطق بها نوّاب نراهم لأول مرة، كما أتحفنا بها النوّاب الذين يعشقون الظهور ولم يبق إلا أن يظهروا لنا في برامج الطبخ والمكياج، المشكلة أن قادة أمنيين "يفترض أن مهنيتهم تمنعهم من الإدلاء بتصريح سياسيّ" أخرجوا ناياتهم وعزفوا معزوفة القمة التي لن تقف في طريقها انفجارات ولا مفخخات.ذهب أربعمئة عراقيّ بين شهيد وجريح في ذلك اليوم، "للتذكير هو ذات اليوم الذي صوّت فيه البرلمانيون على مصفحاتهم" أربعمئة عائلةٍ ترملت فيها الزوجات ويُتّم فيها الأبناء واصطبغتْ حيواتهم بالسواد، والدفان السياسيّ العراقيّ يغمز لنا، مكرراً علينا أغنيته الهابطة جداً حول عدم تأثير موت وجرح 400 عراقي على قمة أمجاد يا عرب أمجاد.بأية حال نحن؟ وهل يهمّ العراقيين حقاً أن تُعقد القمة أو لا تعقد؟ وإذا عُقدتْ ونجحتْ فهل سيكون ذلك عزاء لنا نحن الذين ندفن الآن أحباءنا، بينما دفّاننا يغمز لنا؟ هل سنكون أقلّ خسراناً إذا جاء أصحاب الجلالة والفخامة والنيافة والقداسة والمعالي واجتمعوا ولاكوا برسيم الكلام الذي يلوكونه منذ تأسيس الجامعة وإلى اليوم؟أشدّ من قسوة المجرم القاتل، قسوةُ مَن يستأصل من النفوس أيّ تعاطف مع القتيل. وساستنا أثبتوا مراراً أنهم على قدر من القسوة تجاه العراقيين لم يمتلكها لا القتلة السابقون أيام النظام الغابر الأغبر، ولا القتلة اللاحقون أصحاب البراثن العقائدية والأنياب الطائفية، قسوتهم مدهشة، تتصاغر أمامها قسوة الدفّان الذي يغمز للمطرب الهابط الذي اشتكى لنا في أغنيته من جور الدفّان.وأقسى ما قيل في هذا الصدد، تصريح محافظ بغداد الذي خرج بابتسامته المعهودة قائلاً " هذه أحداث عادية ولا تشكل خرقاً أمنياً وهي يمكن لها أن تحدث في أي بلد"! إذا لم يكن ما جرى في الخميس الأسود خرقاً فكيف يكون الخرق؟! هل يحدث الخرق فقط عندما تتهدد حياة السادة الدفّانين؟! ثم إن هذه الأحداث "العاديّة" تُسقط أية حكومة تحترم نفسها وشعبها.العراق في ثياب حداد أبديّ منذ أن رأينا هذه الوجوه الثقال، منذ أن رأينا الدفّان يهيل التراب على وجوه أحبائنا ومع ذلك يغمز لنا.
قرطاس :والدفّان يغمز لي
نشر في: 27 فبراير, 2012: 07:10 م