أحمد حسين تظاهرتان يتيمتان في حياتي، نجوت من المشاركة في الأولى بفضل شقيقي وشيء من التعقل، وفي الثانية شاركت رغم أنف أحد أفراد العائلة بكامل قواي العقلية.في التظاهرة الأولى، كانت شوارع وأزقة مدينة الثورة ملغومة بقوات الجيش والحرس الجمهوري والانضباط العسكري، وطبعا الاستخبارات العسكرية متخفين بالزي المدني، إضافة إلى الشرطة المحلية وأفواج قوات الطوارئ و(الحزبيين)، وأيضا عناصر الأمن والمخابرات،
وفي الشوارع انتشرت مختلف أنواع الأسلحة من البنادق إلى الـ(PKC) مرورا بـ(الأحادية، والثنائية، والرباعية) وصولاً إلى مدرعات قتال الشوارع والدبابات التي كانت تصطف على طول قناة الجيش، وطبعا كتائب الصواريخ والقوة الجوية التي قيل أنها كانت على أهبة الاستعداد في قاعدة التاجي العسكرية، وما زالت أتذكر قوات الدرع التابعة للحرس الجمهوري التي جاءت من تكريت إلى بغداد، حيث كانت مدرسة الدروع هناك، الإجراء الوحيد الذي لم يتخذ في تلك التظاهرة هو أن الطرق من وإلى مدينة الثورة لم تغلق وظلت مفتوحة أمام الداخلين والخارجين حتى ساعة الصفر وهي ساعة انتهاء صلاة الجمعة في جامع الحكمة بمنطقة (الشركة).وفي التظاهرة الثانية، بغداد إضافة إلى محافظات أخرى دخلت حالة الإنذار القصوى المشددة، فرض حظر للتجوال على المركبات بمختلف أنواعها وأحجامها في عموم مناطق العاصمة منذ ليل الخميس، بالرغم من أن التظاهرة كان مخططاً لها أن تكون في ساحة التحرير وسط العاصمة، قوات الجيش والانضباط العسكري والاستخبارات العسكرية والتشكيلات العسكرية الخاصة، والشرطة الاتحادية والمحلية والنجدة والمرور واستخبارات الداخلية والشؤون الداخلية والأمن وجهازي مكافحة الإرهاب ومكافحة الجرائم الكبرى، إضافة إلى قوات الأمن الوطني والمخابرات والخلايا الاستخبارية الخاصة، انتشرت بكثافة غير معهودة حتى أثناء العام 2006 عقب تفجير القبة العسكرية، وبرزت إلى الشارع أسلحة ومعدات لم تظهر في ما مضى، أسلحة من الهراوات والمسدسات إلى البنادق والـ(PKC) وأيضا (الأحادية) إضافة إلى عربات مكافحة الشغب والدبابات وطائرات الهليكوبتر، وأيضا في هذه التظاهرة جاءت الحكومة بقوات من المحافظات الجنوبية.كانت الأولى ما عرفت لاحقا بتظاهرة أو انتفاضة جامع الحكمة بمدينة الثورة التي أعقبت جريمة اغتيال المرجع الديني محمد محمد صادق الصدر عام 1999، أما التظاهرة الثانية فهي تظاهرات 25 شباط 2011 التي كانت تطالب بتحسين الخدمات والقضاء على الفساد وتوفير فرص العمل.لست ممن دوّن اسمه في سجل معارضة النظام المباد، ولست نادما على ذلك، إذ أصبحت معارضة ذلك النظام وسيلة للتربح أو الاستجداء وما أنا بتاجر ولا أرضى لنفسي التسول.إلا أنني حاولت – محاولة يائسة – المشاركة في تظاهرة جامع الحكمة، التي قمعت كغيرها جميعها بوحشية عرفناها وخبرناها طوال عقود سوداء، كنت في حينها كالغالبية العظمى من العراقيين يائسا من تخلص العراق من النظام الذي أصبح الآن مبادا أو سابقا، كذلك كان النفق الذي اعتصرنا بالعقوبات الاقتصادية لا ذبالة ضوء فيه ولا حتى نهاية، كان زنزانة أكثر منه نفقا، تضيق يوما بعد آخر.اليأس من العيش بكرامة، واليأس من أي تغيير هو ما دفعني في محاولة مجنونة للمشاركة في تظاهرة جامع الحكمة التي انتهت بشلال من الدم.حينها كنت في بيت شقيقي الأكبر بمدينة الثورة، وصبيحة يوم الجمعة الموعود تسللت خلسة من بيته وما أن وصلت الشارع حتى فوجئت بانتشار كثيف لقوات النظام المباد، وقبل أن أخطو خطوة أخرى، أفزعتني كفٌ تحط على كتفي الأيسر وقبل أن أسترد أنفاسي جاءني صوت أخي مطمئنا : لا تخف، وارجع معي بلا عناد، أي مقاومة تصدر منك ستثير الانتباه، "ومعناها يشيلوني آني وياك والعائلة كلها"-، كانت قبضته حازمة وكلماته أشد حزما، ومن دون أية استعراضات بطولية، ألتفت إليه لأجده مصطحبا معه زوجته وابنتيه وعلى الوجوه الثلاثة نظرة مفزعة وترجّ، حينها كان أي رفض مني ما هو إلا حماقة، بل مقامرة بسلامة غيري، وبهدوء عدت معه، ولغاية الآن كلما تذكرت المشهد أشكر شقيقي.وبالتزامن مع الذكرى السنوية الأولى لتظاهرات 25 شباط أجد المشهد نفسه يتكرر، فالتظاهرتان لم تختلفا بالنسبة لي، فلكليهما نفس الدافع – اليأس -، كما أن جملة أخي تكررت بمطابقة غريبة من قبل أحد أفراد العائلة، لكن الفرق الوحيد أنني شاركت في التظاهرة الأخيرة.قبل أيام من انطلاق تظاهرات شباط العام الماضي، أحد أفراد العائلة وهو ضابط في أحد الأجهزة الأمنية، كان يتصل بيّ هاتفيا بشكل يومي ليثنيني عن المشاركة في تظاهرات 25 شباط، وعشية الجمعة زارني في البيت وسرد ليّ جملة أسباب تستدعي عدم مشاركتي، ولأنه كان مصرّاً أردت أن ألطّف الأجواء فأجبته ضاحكا "إذا كنت أنت ضمن المتواجدين في ساحة التحرير فلا خوف عليّ"، إلا أن جوابه أعاد إلى ذاكرتي ما قاله أخي قبل نحو 12 عاما، إذ قال : إذا اعتقلوك لن أتمكن من الاقتراب منك حتى (يشيلوني وياك)-، غريب هذا التطابق بين تظاهرتين ونظامين، ثمة مقولة شهيرة يرددها المهتمون بالتاريخ مفادها "التاريخ كذبة متفق عليها" لكن تاريخ العراق السياسي حقيقة متفق عليها، مؤلم هذا الواقع.منذ سقوط النظام المباد ولغاية العام الماضي كنت أهادن نفسي بل بوصف أدق أخادع نفسي بأن العملية
بين تظاهرتين
نشر في: 27 فبراير, 2012: 07:23 م