نجم واليالموت الذي راح يقضي عليهم، هم أصحاب البشرة السوداء، واحداً واحداً وبحماس يحمل لوناً خاصاً به هذه المرة، يختلف عن "اللا" لون الذي اعتادت الكوارث على حمله، حتى أن حكماءهم احتاروا بتمييز اللون، وفي حالة اضطرارهم لتشخيصه يمنحونه صفة الغموض. لكنهم هذه المرة يرونه بوضوح: أبيض.
نعم أنه أبيض لون الموت الذي يجعل أحبتهم وأقاربهم وأصدقاءهم وجيرانهم يختفون بسرعة البرق دون وداع ودموع، بل دون طقوس. أنه موت بشكل جديد. وهؤلاء الرجال الذين جاءوا عبر المحيط بأسلحتهم وأدواتهم وعدتهم عندهم جلد يشبه لون الجص. الإنسان ـ هكذا تقول القصص الشفاهية التي تناقلتها الألسن في إفريقيا ـ فقد لون جلده الأسود عند دخول مملكة الأموات. هكذا من الجائز جداً أن يكون هؤلاء الرجال ليسوا غير أرواح أولئك الأسلاف الذين يزورنهم دون مقدمات. يظهرون فجأة عند الساحل مع ترساناتهم ومع حيواناتهم ومراحيضهم. "انظروا إلى تلك السفينة التي رست عند الساحل القريب منا، أنها ممتلئة بالأشرعة البيضاء، تغطيها تماماً وتلمع مثل حراب. رجال بيض طلعوا من الماء ينطقون كلمات لا تُفهم. أسلافنا هربوا من الخوف".على هذه الصورة رأى سكان أفريقيا الوصول الأول للبرتغاليين عند شواطئ الكونغو في القرن الخامس عشر، إذا صدقنا ما نقله الحكواتي "موكنزو كيوكو" الذي تحول إلى أكثر القصاصين العالميين شهرة بعد أن نقلت الصحف العالمية ما رواه بمناسبة مؤتمر مناهضة العنصرية في مدينة دوربان في جنوب أفريقيا "السوداء" التي تدعي التعافي من رهبة وباء الموت "الأبيض".لكن تلك الرهبة، رهبة المواجهة الأولى للرجل الأبيض في زمن صديقنا موكنزو كيوكو، كانت مفهومة، فما حصل على السواحل الغربية لقارة أفريقيا في القرون الأربعة اللاحقة هو تراجيديا تفوق كل تصور، عجزت آلاف الكتب عن تصويرها. ما حدث يظل أولاً سراً عرفه أولئك الملايين من البشر الذين تعرضوا له مباشرة، حيث لا كتاب ولا ملحمة تستطيع التخفيف عن ألمهم أو منح العزاء لأحفادهم، وثانياً لأن حتى في حالة تصديقنا كتب المؤرخين فإن عدد البشر "العبيد" الذين شُحنوا يفوق اليوم كل تصور، من غير ممكن حدوث ذلك بسهولة في وقتنا الحاضر، في عصر الإعلام والانترنيت وتضارب المصالح بين الدول التي تتوق للعب دور الكولونيالية من جديد، وخاصة إذا عرفنا حجم الكارثة التي حصلت في ذلك الوقت، حيث شحن تجار الرقيق القادمين من أوروبا والبرازيل في سفنهم ما يقارب الـ 12 إلى 15 مليوناً من الأفارقة باتجاه أميركا، لكي يرضوا هناك الطلب المتزايد على الأيدي العاملة في المزارع.طبعاً يجب ألا ننسى في هذا السياق ما قام به العرب في شرق قارة أفريقيا: العرب هم أول من مارس تجارة الرقيق، وقبل الأوربيين، وليس من المبالغة القول أنهم توصلوا إلى تحويل أكثر من 17 مليوناً من البشر إلى بضاعة في المناطق العربية وخاصة في مناطق الشمال الأفريقي.لكن بغض النظر عن تجارة الرقيق عند العرب، يبدو أن التجارة بالإنسان صاحب البشرة السوداء عند المحيط الأطلسي قوَّت عند الأفارقة وجهة النظر القائلة، بأن الأوروبيين أكثر من غيرهم، هم الذين جاءوا من مملكة الأموات، ليس بسبب تقارب لون بشرة العربي "السمراء" وشكل لباسه وطريقته بالعيش القريبة منهم إلى حد ما، إنما ربما لاختلاف طريقة الأوروبي بالتعامل معهم. ففي كل مرة، عندما يأخذون شحنة من البشر "العبيد" فوق سفنهم، كانوا يختفون إلى الأبد. معظم السكان الأفارقة اعتقدوا أيضاً، بأن الأوربيين هم أكلة لحوم بشر ولذلك يشترون هذا العدد الكبير من البشر. بالإضافة إلى ذلك، فقد اعتقدوا أن النبيذ الأحمر الذي واظب البحارة على شربه، لم يكن بالنسبة للأفارقة سوى دم الضحايا، وبارود بنادق البحارة البيض لم يكن غير المسحوق الذي استخرجه ملائكة الموت "البيض" من العظام السوداء المطحونة، وأحذية الأوربيين السوداء فهي بالنسبة لهم مصنوعة من جلد سكان قارتهم، الأفارقة الأسود المدبوغ.اليوم العديد من المجتمعات في العالم تعيد النظر في تاريخها، خاصة في ما يتعلق بالظلم الذي لحق بطبقات أو فئات أو أقليات اجتماعية أخرى، باستثنائنا نحن، "شعب الله المختار"، كأن لا عنصرية ولا ظلم أرتكب وما يزال يُرتكب عندنا وعلى قدم وساق باسم الطوائف والملل والأجناس. نحن "خير أمة أُخرجت للناس"، حيث ما زالت تقترن كلمة "عبد" بكل صاحب بشرة سوداء، وحيث المرأة عندنا جنس دنس "حرمة" نخترع لها وزارة وهيئات مهمتها هي وأدها من جديد، حتى إذا كانت الوزيرة امرأة كما في حالة العراق!للأسف تلك هي الحقيقة، الموت عندنا يحمل أشرعة بكل الألوان، ولكي ننتهي منه نحتاج إلى قرون طويلة أخرى، نحتاج إلى ألف ربيع وردي وليس إلى ربيع يتنافس عليه الأصوليون والساسة المتاجرون بالدين، من كل الطوائف والأديان والأجناس: سادة العنصرية والتمييز من المحيط حتى الخليج ومن دون استثناء. الموت عندنا يحمل رايات وأعلاماً بكل الألوان!
منطقة محررة: بين الموت الأبيض والموت في كل الألوان
نشر في: 28 فبراير, 2012: 07:54 م