TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > أحاديث شفوية :سحر الرجل الطيب

أحاديث شفوية :سحر الرجل الطيب

نشر في: 28 فبراير, 2012: 11:19 م

 احمد المهنا في البلدات الصغيرة غالبا ما تكون هناك وجوه معتادة وأخرى غريبة. المعتادة قد لا تخلف أثرا في ذاكرتك، بينما تأخذ الأخرى مكانا في الذاكرة، وتستقر هناك، منسية أحيانا، ومستعادة في أحيان أخرى.وكانت المحمودية، حتى أواسط السبعينيات، بلدة صغيرة، يعرف أهلها بعضهم بعضا، فإذا خرج المرء ماشيا من أولها الى آخرها، لا تتوقف يمناه عن التحية، مرة عن بعد، وأخرى مصافحة، وثالثة مقرونة بمحادثة صغيرة.
الغرباء الذين أذكرهم من أيام طفولتي ثلاثة. فلسطينيان ورجل أسود. ولم يكن بيني وبين ذلك الرجل الأسود، العراقي الصميم في لهجته، أكثر من التحية المعتادة. لكنني أتذكره في الطفولة، ثم الصبا، حتى الشباب حين هاجرت البلاد لربع قرن.وهناك، في بلاد الغربة، كان " عبدالله الأسود"، وهذا هو الإسم الذي لم يعرف له غيره في البلدة ، ينبثق أمامي فجأة، بين حين وآخر، خارجا من رفوف عميقة في الذاكرة، فأتأمل في قسمات وجهه، وهيأته، ومشيته.كان يرتدي بدلة انيقة على الدوام، بما فيها الرباط. وكان ذلك أمرا استثنائيا يومذاك، فالدشداشة هي السائدة، وكان الواحد منا، طالبا أو موظفا، لا يصدق متى يعود الى البيت من الدوام، حتى يتحرر من اللباس الرسمي، ويرتدي الدشداشة، تاركا القلق، وعائدا الى سجيته. إلا ذلك الرجل، فلم يشاهد إطلاقا من غير بدلة ولحية حليقة ووجه دائم الإبتسام ومشية هادئة أنيقة.ومن بين وجوه فرادته الفارقة اجادته للإنكليزية. من أين تعلمها؟ ماذا كان عمله؟ اين كان يسكن؟ من أي كوكب هبط ذلك الرجل الأعزب الوحيد على البلدة؟ ومن هو اصلا؟ هذه الأسئلة لم تكن تخطر لي على بال وأنا أراه في البلدة. ولكنها كانت تنهال علي في الغربة كلما أطل من الذاكرة. ثم تجددت علي بعد العودة. وعرفت. سألت وعرفت. عرفت أنني كنت مأخوذا بسحر رجل طيب.أصله من الهند. كان جنديا في جيش الليفي. ولما حل ذلك الجيش عام 1955 بقي في البلدة التي أحبها. وعمل سائقا لدى قائمقام المحمودية. وهو سائق حاذق للغاية. وكان كل قائمقام يغادر يوصي به خليفته. ولغاية 1959 كان يسكن في خان السبيل. وهو مكان مخيف وموحش للغاية، بني عام 1868 لاستراحة زوار العتبات المقدسة، واصبح مهجورا، إلا من صاحبنا!ثم انتقل للمبيت في جامع البلدة القريب من مركز الشرطة. وكان يساعد الموقوفين فيه على تلبية بعض حاجياتهم، مثل شراء السجائر لهم. فقد كان موظفو القائمقامية والشرطة يحبونه مثلما تفعل البلدة جميعا. وباب مركز الشرطة مفتوح أمامه، شأن كثير من أبواب بيوت البلدة، حيث يستضاف على غداء او عشاء، عطفا وتعاطفا. أما مطعم " علي الكببجي" فكان مفتوحا أمامه على الدوام مجانا.كانت لديه " أخلاق رجل عالي الجناب". قال محدثي. وأضاف أنه كان يحب البلدة، عطوفا على الأطفال، ومشجعا للشبان على الدراسة.في الثمانينيات توفي ودفن بالقرية المجولية، شمال المحمودية، في مقبرة قرب ضريح الإمام السيد عبد الله. وهو ضريح فجرته "القاعدة" مرتين عام 2006 !ولكم تغير الزمن بين " القاعدة" وبين عبد الله الأسود. بين عالم الشياطين وبين عالم الطيبين!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram