مشرق عباس كلما نظرت في عين سياسيّ أشعر بأن بئراً من الأسرار تتوارى خلف ابتساماته الخجولة وكلماته المرصوفة . أسرارنا نحن ... خيباتنا، وانكساراتنا، وهزائمنا المستمرة.كيف لنا أن نتخيل بلداً كالعراق صالت به الجيوش وأجهزة المخابرات وقلبت وسائل الإعلام "الفانيلات" الداخلية لسكانه ، مازال مبهماً ... مليئاً بالأسرار والحكايات المتوارية ، والصفقات السرية ، والصمت المطبق؟
منذ تسعة أعوام عبر 180 ألف جندي أميركي حدودنا وغادروا ، تسلقوا جدران منازلنا وآمالنا العريضة ثم تركونا بلا جدران ولا آمال ، لملموا أشياءهم وأشياءنا ، أسرارهم وأسرارنا ، ثم غادروا .. هكذا. ومازلنا نختلف إلى اليوم على تفسير غاياتهم.نهاية العام 2003 جمعتني الصحافة بضابط أميركي رفيع قال بلهجة لم تبد لي كوميدية حينها :"انظر .. الناس تشتري أجهزة (الستالايت) بجنون ، مكيفات الهواء ، وقريباً ستتمكنون من التحدث عبر الهاتف النقال .. ألا يكفي هذا للقول إننا وضعنا بلادكم على طريق التغيير؟" ، وفي العام 2011 بعد أن أدركت كم كنت "مغفلاً" عندما نسيت أن أتعامل مع حديث ذلك الضابط باعتباره نكتة أميركية "سمجة" ، فاجأني ضابط آخر بفكاهة صريحة بالقول "تركنا لكم الديموقراطية". أنا في الحقيقة رجل "ديموقراطي" وبعبارة أدق "أحب أن أكون ديموقراطياً" ، لكن شوارع بغداد مازالت ترعبني ، أتلفت حتى عندما أجازف بالخروج بصحبة مجموعة من الأصدقاء الطيبين ، وأدعي الشجاعة لمجاراة شجاعتهم ، وتتصل زوجتي بزملائي بقلق عندما أغلق الهاتف لإجراء مقابلة صحافية.ومع هذا ليست تلك مشكلة حتى ، فأحد السياسيين يقول لي بلهجة "حكيمة" إن "الديموقراطية شي والأمن شيء آخر" ، وإن انعدام الأمن قد يكون "إحساسا زائفاً" ليس إلا.أنا أصدّق ، لأني أتمنى أن أصدّق . أتأمل صديقي المبدع عدنان حسين الذي ودع لندن عائداً بحيوية وأمل وشجاعة إلى شوارع بغداد ومقاهيها ... فأصدق ، وألمح الصديق سرمد الطائي في الباب الشرقي يمشي بين بائعي السلع المستعملة ويتناول الشاي مع عمال البناء بعد ليلة هاجم فيها بحرقة عبر لقاء تلفزيوني الحكومة ورموزها ومعارضيها والأحزاب ومليشياتها ورجال الدين ولم يوفر أحداً ، فأصدّق أكثر.لكنني عاجز عن تصديق أن بلداً تسعى وزارة المرأة فيه إلى إعادة إحياء مصطلح "الحشمة" يسير باتجاه ديموقراطي ، وأن مليون مقاتل يتزاحمون في أزقته تفلت منهم 22 سيارة مفخخة في ساعة واحدة ، وأن موازنة تصل إلى 100 مليار دولار لا يتوقع أن تحدث فرقاً في الخدمات ولا في حياة الناس ... لن ترتفع بثقافتهم ، ولن تقفز بمستوى تعليمهم ، أو تؤسس لغدهم ، ولن تسخّر لترسيخ قيم التعايش في ما بينهم.أعجز عن تصديق أن العائلات العراقية تهدر 8 مليارات دولار سنوياً على توفير الكهرباء من مولدات الشارع والمنزل وصيانتها وتحويل سمائنا إلى غابات من "الوايرات".ربما أصدّق أن أسرار عشرات المليارات المهدورة خلال السنوات الماضية لم يحن موعد كشفها بعد ، أو أن أسرار الملفات التي يتبادل السياسيون التلويح بها ضد بعضهم لم تبلغ مرحلة الفضح بعد ، لكن سيكون صعباً جداً تصديق سياسي يقول إن تلك الملفات المخبوءة لا تتضمن فقط قضايا إرهاب وسرقات ومؤامرات ، بل تتجاوز إلى الدعارة والاغتصاب والمخدرات.يتحدث صحافي صديق , عن نفسه ككاتم أسرار السياسيين ، وعارف بالخبايا والصفقات الكبرى ، وأستمع إليه بصمت ، محاولاً أن أجبر نفسي على التصديق ، فأعجز أيضا.فصدام رحل مع نظامه من دون أن نكتشف أي سر معتبر من تلك الأسرار التي قادت بخيرة شبابنا إلى حتوفهم في حروب أسميناها "عبثية" لنداري حيرتنا ، وها هو مبارك يمضي وبعده القذافي وصالح ، وقبلهما بن علي ، ولا أسرار تفضح.نحن نتعايش مع أسرار لا نعرفها حتى ، ونكذب عندما ندّعي عكس ذلك ... ربما "نشمّها" فقط حين يباغتنا "برد العجوز" قادماً من "المنطقة الخضراء" بعد أن عزمنا على خلع "عباءاتنا".
عباءة أسرارنا
نشر في: 29 فبراير, 2012: 07:52 م