طارق الجبوري في موضوع سابق نشرته "المدى" تحت عنوان "اليسار العربي إخفاقات أم تحديات عجز عن مواجهتها" أشرنا في نهايته إلى مناقشة ما استعرضه اللقاء اليساري العربي الثالث في اجتماعه المنعقد في بيروت في كانون الثاني الماضي، ورغم ما قد يبدو في العنوان من حدّة واضحة لكنه يعبر عن تساؤل يراود الكثير ممن ضحوا على طريق تحقيق أحلام ظلت تراود مخيلتهم لعشرات السنين، ليصحوا بعد حين على واقع وعالم يرون فيه تغيراً لافتاً فيه يجعلهم في مؤخرة الصفوف فيبحثون عن جواب لحالة التراجع والنكوص.
ومن باب الأمانة العلمية الإشارة إلى أن العنوان أصلاً مستوحى من دعوة أطلقها علاء الدين عرفات من سوريا خلال حديث له في مناقشات هذا اللقاء الذي أنهى أعماله في الخامس عشر من الشهر الماضي عندما دعا "كل تنظيم شيوعي إلى أن يسأل نفسه ما إذا كان هذا الضعف الذي يعانيه موقتاً أم أنه مؤشر على زواله ". ومع الأهمية التي كنا نرجوها من عقد هذا المؤتمر في ظل ما تشهده ساحة العمل السياسي العربية من انحسار واضح لهذا التيار فانه بصراحة، وكما يبدو من خلال اطلاعنا على ما وفرته وسائل النشر، ظل في معظم طروحاته أسير الشعارات التي لا تسمن ولاتغني من جوع ولم يرق حتى في توصيات بيانه إلى مستوى التحدي الذي يواجهه. صحيح أن البعض قد تناول موضوعة الانكفاء والضعف والانحسار لكنه مرّ عليها "مرور الكرام " رغم انه الخطوة الأولى التي يجب أن يتوقف عندها المشاركون ويشبعونها بحثاً وصولاً إلى المعالجات. لا نريد أن نبخس جهد القائمين على المؤتمر ولا جهود المشاركين الممثلين لـ "22 حزباً من 11 بلداً عربياً" مع أن طروحات البعض منهم توحي بالتغريد خارج السرب كما يقول المثل دون التفات للمتغيرات الكثيرة التي طرأت على العالم، ولا نريد أن ندّعي أن ما جاء في بيان المؤتمر الختامي طروحات غير واقعية، لأن مجرد انعقاد المؤتمر في هذه المرحلة مهم جداً، لكنا ـ ونعتقد أن الملايين مثلنا ـ كنا نتمنى أن تأخذ موضوعة ضعف دور اليسار وأسبابه حيزاً أوسع في مناقشات المؤتمر ، لأنها الخطوة الأولى لمحاولة استعادة هذا التيار لدوره المؤثر في الشارع العربي , وأن يتم إحصاء الأخطاء الذاتية التي أوصلت هذا التيار إلى هذا الموقف ، والتوقف عندها كثيراً لأنها الخطوة الأولى في إمكانية تحقيق توصياته ، سواء ما يتعلق منها بـ "مسألة تعزيز الديمقراطية بكل أشكالها ومستوياتها " أو لـ"مواجهة المشروع الإمبريالي المسمى "الشرق الأوسط الجديد"، الذي يسعى إلى ترسيخ السيطرة الإمبريالية على منطقتنا عبر استعادة مشاريع سابقة تهدف إلى تفتيت العالم العربي إلى دويلات تقوم على أسس طائفية ومذهبية وإثنية " أو غيرها مما يتعلق بالجانب الاقتصادي . المشكلة كما نرى أكبر من ذلك وأعمق وتتعلق بمشاكل داخلية عاناها تيار اليسار العربي بمختلف مكوناته ورؤى وأساليب عمل وتكتيكات ، أفضت إلى شبه حالة يأس عند غالبية القاعدة الشعبية التي كانت الحاضن الأكبر لمكونات هذا التيار الذي قال إن "تجذير الثورات العربية، لا يتحقق إلا من خلال التنسيق بين مكوناته باتجاه خلق جبهة وطنية ديمقراطية على مستوى كل بلد عربي وعلى المستوى العربي العام، بالاستناد إلى برنامج تغييري يؤسس لقيام حركة تحررية عربية من نوع جديد " دون أن يقول كيف ! . فجمعينا متفق على أهمية البرنامج التغييري ونبه ودعا في أكثر من مناسبة إلى ذلك ، غير أن ما ننتظره هو تحويل هذا الشعار إلى واقع قبل فوات الأوان ،خاصة أن بعض هذه التيارات سبق أن شخصت في مؤتمراتها هذه الحالة التي يعيشها اليسار لكنها بقيت عاجزة عن تحويلها إلى واقع ، ما أدى إلى أن تتخلف عن عملية التأثير بالواقع . لم تكن الثورات العربية التي قادها الشباب وحصد ثمارها الإسلاميون الحالة الأولى ، فقد سبقها نكوصات متعددة في مصر وسوريا و العراق والسودان ولبنان الذي كان اليسار فيها الداينمو الأساس لانتفاضته الشعبية منذ الثلاثينات ولحين عصر الانقلابات العسكرية " الثورية " التي دفع ثمن التأييد المطلق والأعمى لها قادة تاريخيون وأعداد كبيرة من القاعدة الشعبية لليسار ناهيك عما سببته هذه القضية من خلافات حادة أدت إلى انشقاقات كبيرة هزت بعض أجنحة التيار وأضعفته تدريجياً . لسنا بصدد مراجعة ما تعرض له رموز اليسار العربي وقاعدته العريضة من محن وأساليب قمع وتصفيات دموية كانت الأشد في عهود الأنظمة الثورية التي صفقنا لها وبنينا بيوتاً من رمل على وفق اجتهادات نظرية أوهمتنا إمكانية الانتقال بها تدريجياً إلى مرحلة الوطنية الديمقراطية وتمادت بعض مكونات التيار أكثر من ذلك فسمحت ، كما عبر احد ممثلي الأحزاب ، بأن يكون ذيلاً تابعاً لطبقة جديدة أفرزتها مرحلة الانقلابات ، فانتهكت الوطنية تدريجياً ولم نحظ بالديمقراطية وضاعت القاعدة التي صبرت كثيراً وضحت لتجد نفسها تعيش أوضاعاً مأسوية . فإلى جانب الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية المزرية التي كان عليها أن تتحملها من اجل إلحاق الهزيمة بالامبريالية والصهيونية ، ولتجد نفسها تعيش حالة هزائم وانكسارات لم تفلح أناشيد المعارك بتغطية عارها . هذه هي الصورة المبسطة التي عاشتها قواعد اليسار العربي وتحملتها عقود
ضعـف اليسـار العـربي موقـّت أم مؤشّر على زوال؟
نشر في: 29 فبراير, 2012: 07:54 م