سرمد الطائيأتاح لي التواجد ضمن فريق تلفزيوني تابع لمؤسسة المدى، الاطلاع على البساتين الهائلة الممتدة من طاق كسرى في مدائن سلمان باك (الصحابي المعروف سلمان الفارسي) حتى قضاء الصويرة جنوب بغداد الذي يستقبلك ويودعك بجداريات لعبد الكريم قاسم زعيم انقلاب 1958، والذي انحدر من تلك المدينة وترك فيها ثانوية للبنات لا تزال تحتفظ له بود عميق، وتعرض كؤوسا وأواني أهداها الزعيم إلى الكادر التدريسي قبل 52 عاما.
ولعل صلة جيلي بالبساتين والحقول كحال الكثيرين من أهل العراق المعروف تأريخيا بأنه "بلد الفلاحة" وأرض السواد، تقوم على ذكرى أليمة. فقد انحدرنا من عوائل ظلت اجيالا طويلة تعيش في بساتينها، وتموت فيها، مستمتعة بحياة وادعة هانئة هادئة، لكن الدور حين وصل إلينا نشبت الحروب واحترقت الحقول وجعلت منا "جيلا مشؤوما" يخسر هناء الريف ولا يحصل الا على شقاء مدن تحولت الى شيء يشبه مخيمات لاجئين عملاقة بائسة.نحن القادمون من بؤس السجالات السياسية التي تفكر حائرة بفشل مدمر للدولة الراهنة في جميع مناحيها، وجدنا في الريف العراقي نقطة ضوء نادرة تتحدث عن أناس لم يتمكن منهم اليأس بعد. فعبر جولة شملت مقابلات مع رسميين ورجال أعمال ومزارعين، كان أكثر ما لفت نظر فريق العمل، مثابرة نادرة يبديها صاحب الأرض العراقي في الصراع مع هوان التاريخ ومشاكل الجغرافيا وغفلة السلطان عن ثروة ابقى وأهم من كل نفطنا.فالسيد حميد وهو قريب صديقنا زياد العجيلي، يتحدث بفرح عن نجاحه مع نظرائه خلال السنوات الاخيرة، في تطوير طرق الزراعة والتواصل مع احدث التقنيات في التعامل مع البذور وتكييفها مع مناخنا المتقلب والقاسي، بلا اي مساعدة من الدولة. وهو يعرض علينا بفخر نماذج عدة لثمرة "الباذنجان" واحدة اسبانية يطلق عليها الشباب اسم "برشلونة" تيمنا بالفريق المعروف، واخرى "كاريما" فرنسية المنشأ. ويقول ان الدولة ظلت متخلفة في ارشاد المزارعين، سواء في عهد صدام حسين او عهد معارضيه السابقين، بينما نجحت مكاتب أهلية في التواصل مع شركات زراعية في سوريا والاردن ولبنان، نقلت اليهم تجارب متنوعة في تطوير المحاصيل التي تنجح زراعتها جنوب بغداد.ان تلكؤ الدولة في نقل التجارب الناجحة لم يمنع "اهل الكار" العراقيين من الاستعانة بالانترنت لجمع معلومات عن البذور وانواع الاسمدة الحديثة ومواقيت استخدامها، وخيارات الاقتصاد في ري المحصول بالماء الشحيح المتبقي من دجلة.وتلكؤ الدولة في توفير ما يلزم من قروض وسلف تعين المزارع على تطوير محاصيله، لم تمنع شركات اهلية من التعاون مع مالكي الارض لتوفير سماد وبيوت زجاجية وبذور وطرق تسويق حديثة، لا يقتطع ثمنه حتى بيع المحصول، ثم توزع الأرباح على الجميع ويتجاوزون بذلك معظم المعوقات السياسية والادارية والامنية التي تحيط بمصالحهم.المزارع حميد واصدقاؤه، يتحدثون بشيء من التفاؤل عن مستقبل الزراعة في العراق، وهم يقولون ان النجاح تأسس على نوع من "الكفر بالدولة" وعدم الاتكال عليها، ويأملون بظهور مستثمرين من القطاع الخاص يشاركونهم هذا الهم، وهم فرحون كذلك برحيل تنظيم القاعدة واختفاء الميليشيات، فقد تصارع هذان الطرفان طويلا على اراضيهم وعطلوا حياتهم عدة اعوام قبل 2009.ودعنا المزارعين المثابرين وعبرنا الطريق الزاخر بأشجار النخيل والحمضيات في مشهد راح يجعلني استذكر اجيال العائلة التي سبقتني وأمضت العمر بأكمله في جنينة مشابهة قرب شط العرب، مترنما بقول السياب: "ولو خيرت أبدلت الذي ألقى بما ذاقوا".قاتل الله العنف الذي حرمنا من حرية الحركة في البساتين الهائلة التي تحيط بغداد كسياج اخضر مليء بالزهو والنضارة. وحمى الله أرياف العراق، ولا أحوجها الى دولة ستظل تنغمس في الفشل وتبدد الفرص والخيرات حتى حين.
عالم آخر: ريف مثابر يكفر بدولة فاشلة
نشر في: 29 فبراير, 2012: 09:43 م