علي القيسيصورإنسانية كثيرة ومتنوعة تختزلها ذاكرة الناس.. ملونة بمعاني الإيثار والتضحية ونكران الذات، وكل المعاني النبيلة الاخرى التي عُرف بها العراقيون في سنوات المحن. الحكاية التي أسرد جزءاً منها اليوم ليست حالة فريدة ونادرة، لكنها صورة تنفرد بالسمّو والروعة، تشي بأن عظمة الدول لاتبنيها الحكومات بقرارات او فرمانات تصـدرها وحسب، وانما العظمة تنمو وتعلو بالجهود الخيـّرة، الانسانية،المعطاء التي يبذلها الافراد الكباربتضحياتهم الجسيمة.
الحكاية تبدأ حين قامت عصابات الخطف والجريمة في سنوات الفوضى والانفلات المنصرمة بخطف طبيب جراح، وطالبت اهله بالفدية التي دفعها شقيقه صاغرا وقت ذاك، وحال الافراج عنه غادر البلد مثل عشرات الكفاءات التي هاجرت خوف الموت في تلك السنين العجاف، قبل ان تعيد خطة فرض القانون حياتنا الى طبيعتها. ومارس طبيب القلب الجراح في الاردن عمله، وباشر مرضاه ممن يستطيع الوصول إليه وهم قلة، لارتفاع تكاليف السفروالاقامة. من عمان كان الطبيب يسمع أنين مرضاه ويتحسس حاجتهم إليه ، ما دفعه الى المغامرة بالعودة ثانية !! لكن هذه المرة قرر ان لايقع فريسة سهلة بيد المجرمين، فأقام داخل المستشفى الاهلي التي يعمل فيه بعدما تم تأهيل غرفة الممرضين له لينام ويعيش فيها.. بقي الرجل حبيس –واكرر، حبيس– المستشفى طوال شهور عمله، التي حـّرمت عليه الخروج لأي حاجة، مهما عـُظمت ودون مساحة حرية تذكر، بل كانت شهورا من العمل المضني، دون كلل او ملل ادى فيها خدمات طبية واسعة، لمحتاجيها من مرضى القلب.جسد الرجل بتضحياته هذه ، انسانيته المفرطة، وعراقيته، وشهامته فضلا عن شجاعته. يعجز قلمي عن تصوير حقيقة الرجل ولكن عودته وعمله في ظل ظروف صعبة للغاية تنطق بحقيقة عمله وشجاعته... يقيناًً ان هذه الحكاية لها ما يشابهها من حكايات لرجال نبلاء كان ديدنهم خدمة العراق واهله بعيداًًعن الاضواء، ودون ان تعرف بهم دوائرهم او تقيمهم او توجه لهم كتاب شكر حتى، ومثل هؤلاء الرجال لا ينتظرون الشكر من احد، اذ ان عملهم موجه اساساً لخدمة الوطن من دون "منية". وبعطاء هؤلاء الصامتين يسمو العراق وتعود عافيته، فهم بلسم جراحنا.
كلام ابيض : صور ناطقة
نشر في: 7 أكتوبر, 2009: 07:17 م