وميض إحسانكيف ننظر إلى الاقتحام المفاجئ للتيارات الإسلامية ساحة الثورات العربية في أجواء من الرضى، وغض النظر، من قبل قوى، محلية ودولية، كانت حتى الأمس القريب تعارض وتتصدى، وحتى تقاتل، أية حركة إسلامية في المنطقة العربية ؟
ليس بمقدور احد أن يتغاضى عن حساب احتمالات هذا الظهور القوي، أو توقيتات هذا الاقتحام، والتمعن في الدواعي قبل تحديد المواقف وإطلاق الأحكام..ما يزيد الشكوك بحقيقة صعود ما بات يدعى بالإسلام السياسي ليس طبيعة الحركات الإسلامية نفسها، فذلك من الهموم المؤجلة التي ينبغي التأمل فيها، لكنه القبول الأميركي والغرب عموماً، بقيادة المنطقة العربية، والتحكم بسياساتها، من قبل أحزاب وحركات إسلامية في مرحلة شهدت إطلاق دعوات محمومة إلى محاربة الإرهاب، وضرورة تنقية المنطقة من القيم التي تحول دون انتقال أنظمتها السياسية إلى الديمقراطية، الأمر الذي ارتكزت عليه الغزوات العسكرية واحتلال الأراضي، وفي طروحاتهم أن الإسلام هو منبع تلك القيم التي أنتجت كل أعمال العنف والحركات الإرهابية، واضعين أنموذج تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان، والنظام الإسلامي في إيران، مقياساً لأية تنظيمات إسلامية.وقد تكون المخاوف من صعود التيارات الإسلامية إلى واجهة القيادة في المجتمعات العربية، التي لم يتردد عن إطلاقها الكثير من الجبهات الفكرية والسياسية في المنطقة، تحمل في داخلها مبررات واقعية أكثر من كونها مناكفات سياسية. إذ أن ذلك الاقتحام المفاجئ، دون إغفال نتائجه السياسية، يعني في كثير منه ارتدادا خطيرا إلى الوراء من شأنه حرق مراحل تاريخية طويلة في تأريخ التنوير العربي، استنزفت الكثير من الوقت والجهد للوصول إلى حافة الارتقاء الفكري والسياسي الذي يتيح إمكانية الانتقال بالمجتمعات العربية إلى حالة المعاصرة، ويخرجها من مواقع الاستهلاك والتبعية في مختلف المجالات إلى حالة الإنتاج والاستقلال.المفكرون الإسلاميون في البلدان العربية والإسلامية استبشروا خيراً بالتغيرات الدراماتيكية الحاصلة في البلدان العربية والإسلامية، ونشطوا في إعادة ترويج مفهوم الإسلام السياسي المعتدل، وانتظموا في كتابة الكثير من الدراسات والمقالات الصحفية التي تؤكد أن التطور الذي رافق الفكر الإسلامي يدعو إلى وجوب التفريق، ووضع الفواصل التأريخية، بين الإسلاميين المعتدلين والجهاديين المتصلبين أو السلفيين المتحجرين، ويضعون التجربة التركية بقيادة رجب طيب أوردغان في واجهة الشعارات التي تؤسس لنمط إسلامي لا يؤدي إلى أية تقاطعات بين الإسلام والديمقراطية، عارضين أمام العالم أوجه الاختلاف بين فكر الإسلام المعتدل الذي تتبناه الحركات الإسلامية، التي تطور أداؤها بشكل كبير خلال العقود الثلاثة الماضية، وبين مفهوم الإسلام الذي يروج له تنظيم القاعدة وحركة طالبان والحركات الجهادية والسلفية، مؤكدين "أن الإسلام السياسي يتطور مع تطور المجتمعات التي يتحرك فيها، وأن التيار الإسلامي في تطوره يأخذ منحىً حضارياً أكثر منه دينياً، الأمر الذي يجعله أكثر تفاعلاً مع البيئة التي يتحرك فيها، سواء كانت علمانية أو ديمقراطية".كذلك أنهم لا يرون أية تعقيدات حقيقية في كل ما يجري، ويظنون أن لا داعي لأسباب القلق الذي يتلبس الكثيرين، خصوصاً الأحزاب والجبهات العلمانية، كون نشاط الأحزاب التي تعبر عن هوية الإسلام أمراً طبيعياً في المجتمعات الإسلامية، وان ظهورها في هذه المرحلة بالتحديد مرده إلى طبيعة الأنظمة الديكتاتورية التي قمعت تلك الأحزاب والحركات في السابق ما جعلها تجنح للسكون، وان فضاء الحرية الذي أوجدته حالة "الربيع العربي" هو الذي أعاد تدفق الدماء في شرايينها، ودفعها إلى الحركة، والعمل على تفعيل هويتها الإسلامية.ثمة دلائل على أن الصحوات العربية يجري مصادرتها بشكل منتظم لرسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة العربية، يحدد تضاريسها مشروع أميركي أوروبي هدفه الرئيس تقسيمها على أساس مذهبي وعرقي وطائفي بعد أن كانت مقسمة سياسياً وجغرافياً، وخلق جبهة جديدة تقوم على مرتكزات طائفية تعمل على تطويق إيران وتحد من مشروعها التوسعي، تكون أداتها الحركات الإسلامية السنية لمواجهة إيران الشيعية، ومن ثم تحويل الصراع في المنطقة من صراع عربي إسرائيلي يمتلك دواعيه التأريخية والسياسية إلى صراع عربي إيراني من شأنه تدمير المنطقة بالكامل واستنزاف قواها، وتحويل الأنظار عن القضية الفلسطينية بما يتيح لإسرائيل الوقت وأسباب المضي بمشروعها الكبير. والمشروع الأميركي الجديد يستدعي، بطريقة أو بأخرى، وجود خيوط أساسية من رؤية المستشرق اليهودي "برنارد لويس" الذي يعد من اشد الصهاينة الأميركيين المناصرين لإسرائيل والمعادين للعرب والإسلام على حد سواء، ويعد المنظّر الرئيس لسياسة التدخل والهيمنة الأميركية في المنطقة العربية، والذي عمل مستشاراً لإدارتي الرئيسين بوش الأب والابن. ورؤية لويس تستند الى ضرورة أن تقوم أميركا بتغيير سياستها في المنطقة، فبدلاً من السياسة القديمة التي تعمل على خلق نزاعات بين حكومات وشعوب، فإنها ينبغي الآن أن
التيارات الإسلامية.. والثمن المؤجّل
نشر في: 4 مارس, 2012: 08:09 م