بغداد/ المدى الحاج يحيى لم يكن يتوقع يوما أن تكون هذه هي نهايته ، وان القدر يخبئ له هذه النهاية البشعة ، كما لم يتوقع ان تكتب كلمة النهاية فوق هذا الطريق الذي ظل يسير عليه قرابة ثلاثين عاما في رحلة يومية .. ذهابا الى عمله ككاتب في مدرسة ابتدائية وإيابا إلى منزله حيث يسكن حي أور !...
ولتكن بدايتنا من اليوم الأخير في حياة الحاج يحيى كما يلقبه تلاميذ المدرسة وأبناء الحي الذي يسكن فيه ... نظرا لأنه رجل متدين انعكس تدينه على سلوكياته فهو رجل طيب القلب دمث الأخلاق والطباع .. اليوم الطبيعي في حياة يحيى يبدأ منذ سماعه آذان الفجر ، ينهض من فراشه بلا تكاسل يتوضأ ويذهب للجامع القريب من منزله لأداء صلاة الفجر ... إلا انه في هذا اليوم استيقظ مفزوعا من نومه قبل آذان الفجر بأكثر من ساعة تقريبا لا لشيء فقط شعر بأن النوم قد فارق عينيه وان الساعات القليلة التي نامها كأنها دهر أشبعه نوما وهيهات أن يداعب النوم جفونه مرة أخرى ، استيقظ وذهب ليتوضأ ويصلي وجلس يقرأ القرآن حتى يحين موعد آذان الفجر ... لم يشأ أن يقلق زوجته فهو يعلم انها مريضة بالسكر وأمراض القلب قلما سمحت لها بأن تنام نوما عميقا من فرط الآلام التي تشعر بها ... وعندما أذن الفجر ذهب كعادته ليصلي لا شيء يفسد عليه شعائره اليومية ، وعندما عاد من الجامع كانت زوجته قد استيقظت من نومها لكنها نسيت آلامها التي قضت مضجعها بعدما رأته شاحب اللون وشارد الذهن يتأملها بصعوبة من خلف نظارته الغليظة ... وبالرغم من أن يحيى قد تخطى سن التقاعد إلا انه ما زال مصرا على العمل فراتبه يكفيه في الوقت الحاضر ولكن إذا أحيل الى التقاعد فالراتب لا يكفي ثمن الأدوية الشهرية التي تأخذها زوجته وابنته المعاقة ذهنيا ... فهو بالوقت الحاضر يستطيع تدبير نفقات يومه لذلك كان أولى به ان يرتاح بعد عمر طويل قضاه في الشقاء لكن من أين سيدبر المطلوب منه ؟... كان الحاج يحيى يتصرف في صباحه هذا وكأنه يكتب وصيته الأخيرة ... ارتدى ملابسه وتناول إفطاره على عجل فشروده قد أضاع عليه وقتا كبيرا وقبل أن ينصرف من منزله دخل غرفة ابنته المعاقة ذهنيا وألقى عليها نظرة الوداع وسلم على زوجته وأوصى بها على هذه الابنة الوحيدة ... بعدها خرج إلى عمله في نفس الطريق الذي ظل يسير عليه لأكثر من ثلاثين سنة ... حيث يستقل الدراجة الهوائية متجها بها إلى المدرسة ... وعندما وصل إلى مفترق طرق كان يترجل من الدراجة للعبور الى الجهة الأخرى ينظر يمينا ويسارا ويتمهل في العبور وهو بطبيعة الحال رجل بطيء الحركة نظرا لكبر سنه وعندما تأكد من خلو الشارع من السيارات همّ بالعبور وفي منتصف الطريق انشقت الأرض عن سيارة (كيا) تسير بسرعة جنونية من مسافة الرؤية التي رآها بها لم تمهله الوقت ليفكر في أن يسرع ليعبر الشارع او حتى يرجع الى حيث أتى وفجأة سمع الناس صوت صراخ وبريك قوي لسيارة الكيا متزامنا مع صوت ارتطام قوي وجد الحاج يحيى مع دراجته يطير في الهواء لأكثر من ثلاثة امتار ... وعندما تنبه الناس كان الحاج يحيى ساقطا على الأرض وسط بركة من الدماء يصارع الموت ... تجمع الناس وأحاطوا بالسيارة وسائقها الذي اجبروه على النزول لكي يقبضوا عليه وقبل أن يهم احد بالاتصال بالنجدة او الإسعاف ارتدى السائق قناع البراءة والشهامة وتطوع بان ينقله في سيارته لأقرب مستشفى لعلاجه ... وللأسف لم يتطوع احد من المارة ان يرافقه الى المستشفى ... فقط حملوه وألقوه على الكرسي الخلفي للسيارة التي كانت خالية من الركاب والحاج يحيى يتأوه من شدة آلامه وينزف وهو يصارع الموت ! هرب السائق من مسرح الجريمة وانطلق الى حيث هداه تفكيره الإجرامي ... فبدلا من ان يسرع به لإسعافه اتجه الى احدى الطرق الزراعية المهجورة وألقاه الى جانب الطريق بعدما اخذ هويته وساعته وكل ما يملك وهرب السائق بعد أن تركه وحيدا في هذه المنطقة المهجورة يصارع الموت وحده ! هذا ما كان في مسرح الجريمة ، أما في منزل الحاج يحيى فقد مضى وقت عودة الحاج الى منزله وهو أمر غير طبيعي جعل الشك والخوف يتسرب إلى كل أسرته .. بدأ القلق يسيطر على زوجته ومن فرط قلقها عليه ارتفع الضغط والسكر عندها حتى أغمي عليها في حين حضر أبناؤه وبناته ... سؤال واحد كان يتردد أين ذهب والدهم؟ الساعات كانت تمر بسرعة مذهلة بينما لا شيء يحدث والقلق بدأ يزداد ولم يجد ابنه بدا من أن يسأل عليه في مدرسته ولدى أصدقائه ولم ترح الإجابة قلبه بل زادته قلقا عندما اخبروه في المدرسة أن والده لم يأت اليوم ولم يره احد ... وانتهى اليوم الأول بلا نتيجة وفي اليوم التالي بدأ الأبناء يسألون عنه في المستشفيات ومراكز الشرطة القريبة وبدأ لهم احتمال أن يكون حدث له مكروه ... لكن كل الاستفسارات والبحث لم تؤدي إلى نتيجة وفي اليوم الثالث توجه ابنه الكبير إلى الطب العدلي ليجد أبوه داخل إحدى الثلاجات من حوالي يومين بعد أن تم العثور عليه من قبل إحدى الدوريات في شارع مهجور بالقرب من المزابل وهو جثة هامدة !... انتقلت الشرطة الى الطب العدلي لأخذ صورة للمتوفى والطلب منه لتشريح الجثة ... وعند معاينته من قبل الأطباء تبين ان الوفاة حدثت نتيجة تصادم فالإصابات الظاهرية في الجثة كانت عبارة عن كسر في الجمج
من أغرب القضايا ..سيارة مجهولة دعسته وهو في طريقه إلى عمله
نشر في: 5 مارس, 2012: 08:18 م