سرمد الطائيخلال صباح بغدادي مزدحم، في وسعك القول بأن الشارع مصادر من قبل سيارات الحكومة بضوضائها وخيلائها المزعجة وكل المسلحين المحيطين بها من الجهات الأربع. وفي مشهد اعتيادي نراه كل يوم، تمر بضع عجلات رباعية الدفع سوداء مظللة وبلا أرقام، تتقدمها همر عسكرية وتحرسها أخرى من الخلف، و"تخبص الشارع خبصا".
عابر سبيل زهقان يسأل شرطي المرور او جندي السيطرة: هل تعرف من يستقل هذه السيارة؟ كيف سمحت لها بالمرور دون ان ترى وجوه راكبيها او هوياتهم، وهي بلا أرقام أساسا؟ السائل يطرح الأمر كاستفهام استنكاري، وجندي السيطرة يزم شفتيه سخرية من نفسه ومن كل شيء ولا يجيب بأي كلمة. اما أنا فأفكر بالعباقرة الذين يحيطون بالقائد العام للقوات المسلحة، ويكتشفون ما معدله انقلابان كل شهر، ويملؤون عقل الحكومة وقلبها بوساوس ومخاوف تتحول الى تصريحات وتصريحات مضادة، وحملات مداهمة واعتقال، ثم يغلق ملفها بسبب اكتشاف المزيد من "الانقلابات" المفترضة، وهلم جرا.تسأل نفسك: كيف يكتشف المرء انقلابا في بلد نصف سياراته المهمة بلا أرقام، وكل راكبيها مجهولو الهوية يتوارون خلف زجاج اسود، ولا يجرؤ شرطي او جندي على الاستفهام بشأن مقصدهم او غرضهم. تردعه عن ذلك مدرعتا همر او أكثر ترافقان العجلات رباعية الدفع، وصوت أجش من خلف المقود يأتي عبر مكبر الصوت كزجر ينهر المارة وسائقي السيارات المدنية، ولا احد يدري هل يذهب السادة الى اجتماع مصيري بشأن ملوحة مياه الفاو، ام الى صالون حلاقة استعدادا لسهرة رومانسية آخر المساء؟لكن المحيطين بالقيادات العليا يكتشفون على طريقتهم الخاصة، انقلابين كل شهر. ويتحدثون عن شبكة متطورة من العيون والجواسيس وراصدي الحركات والسكنات، تنجح في اكتشاف كل هذه الخطوات المضادة لعمليتنا السياسية. رغم ان كل تطور هذه الشبكات وتعقيدها يعجز عن احباط الهجمات المنسقة التي تشهدها بغداد بين الحين والآخر، كما يعجز عن اعتراض بضع سيارات سود مصفحة اجتاحت فجر الاثنين مدينة حديثة وراحت تعدم الضباط والجنود، متقمصة دور قوة خاصة قادمة من بغداد بأوامر اعتقال وقعها واحد من كبار السلاطين او من يمثله.الكارثة الوطنية التي حصلت في حديثة، تجعلنا أمام افتراض مفاده ان رئيس الحكومة احتكر "الشبكات المتطورة" من العيون والجواسيس، لأمنه الشخصي وجعلهم عاكفين على رصد من يحاول تنظيم انقلاب في بغداد، وقد نجحوا في كشف ما معدله انقلابان كل شهر.. وبينما ينشغل هؤلاء "المتطورون الراصدون للحركات والسكنات" بحماية عمليتنا السياسية من خطر "انقلابين كل شهر"، فإن مدينة بحجم حديثة يمكن ان تظل نائمة غافلة لساعات، عن "انقلاب صغير" يطيح بقياداتها الامنية وينفذ الاعدام بجنودها الشجعان، عبر تقمص دور قوة مجهولة قادمة من بغداد لاعتقال أشخاص مهمين.المدن تستسلم لمزاعم كهذه يحملها رتل مكون من مصفحات سود ويحرسها همران، وتحمل كتبا يقال انها تضمنت تواقيع "مزورة" من "الكبار". كل المدن من البصرة حتى الموصل، تستسلم لهذا المشهد لانها اعتادت ان تأتي قوات خاصة وبدون اي تنسيق مسبق، وتعتقل من تشاء سواء بتهمة التخطيط لانقلاب اكتشفه العباقرة المحيطون بأكبر رجال المنطقة الخضراء، أم بأي تهمة أخرى صالحة للاستخدام.المدن تستسلم للسياقات الأمنية غير الواضحة ولكل ألغاز الإخفاق في ادارة مليون جندي معززين بميزانية ضخمة تتجاوز 14 مليار دولار. اما الاستخبارات "المتطورة" فتعكف على اكتشاف الانقلاب تلو الآخر، بينما لا تعبأ بأمن الأهالي او امن المؤسسة العسكرية الذي طعن في الصميم خلال ليلة سوداء بمدينة حديثة.والأمر لن يغير شيئا، فالارتال السود المجهولة ستظل تتجول في كل المدن بلا حسيب او رقيب، ويمكنها اعتقال اي شخص شاءت، في مشهد كبير يختلط داخله الحق بالباطل، والتخطيط الرشيد بالمزاج الارعن. ولا احد من الجهات الرقابية سيجرؤ على استجواب مسؤول عن القصص المشابهة، لا لأن اهل الرقابة تخذلهم الجرأة، ولكن لأن كل "امراء الحرب" يتوارون خلف سيارات مشابهة، ويديرون نشاطات مشابهة، ويحمون انفسهم واغراضهم السياسية الملغزة، بتكتيكات مشابهة ايضا.
عالم آخر: أين اختفى مكتشفو الانقلابات يا حديثة؟
نشر في: 5 مارس, 2012: 09:58 م