أحمد عبد الحسين العدالة ـ ككلّ شيء في عراق اليوم ـ لا تُوزّع بعدالة. والقانون لا يطبّق وفقاً للقانون! هناك أناس يستقبلهم القانون بوجه عبوس قمطريرٍ مدققاً معهم بكلّ خطيئة وجرم ارتكبوهما، لينالوا بعدها ما يستحقون. أمر محمود أن تكون للقانون هذه السطوة، لكنّ خطيئة وجرماً مشابهين يرتكبهما شخص آخر لا تلقيان من القانون ذاته؛ تلك الصرامة والعدالة الباردة.
القانون انتقائيّ؟ نعم ففي كلّ قانون ـ مهما كانتْ درجةُ تماسكه ـ ثغراتٌ يمكن أن يفلت منها المسيء إذا كان منفّذ القانون يريد لهذا المسيء أن ينجو بجلده. لأن قيمة كلّ شيء تتحدد بقيمة مستثمره، وأهمية كلّ نظام يصنعها القائمون عليه.من رأى فيلم "محامي الشيطان" للمخرج "تايلور هاكفورد"، المعدّ عن رواية "أندريو نيدرمان" وتمثيل العملاق "آلباتشينو" لا بدّ أن يكون الحوار الذي يجري بين المحامي والشيطان قد استوقفه، لأنه حوار عميق وطريف. يسأل المحامي الشيطان: لماذا اخترتَ القانون ميداناً لعملك؟ فيجيب الشيطان بلهجة حكيمة: لأن القانون يملأ كلّ شيء ويدخل في كلّ شيء، إنه في السياسة والاقتصاد والجنس والفنّ والرياضة، القانون هو العالم كله. ثم يختتم الشيطان حواره بهذه الجملة الحاسمة: دولتي "دولة قانون".الشيطان في الفيلم يجنّد آلاف المحامين من شتى بقاع العالم للدفاع عن أتباعه، ويخرجهم من أبشع الجرائم سالمين كما تخرج الشعرة من العجين، لكنه يترك خصومه تحت رحمة سيف العدالة البارد الذي لا يرحم. إنه استخدام غير عادل للعدالة، لكنّ ذلك كله يتم وفقاً للقانون وبآليات قانونية.ثمة في العراق من الحوادث ما يذكرني دائماً بهذا الفيلم، أشخاص تلاحقهم يد العدالة بتهمٍ يستحقّون عليها الإدانة والعقوبة، وآخرون ـ بالجرائم ذاتها ـ يخرجهم "القانون" من مآزقهم مهما كانت مستعصية، لأن مملكتنا ـ وليست مملكة الشيطان فقط ـ يحكمها القانون.وزير يمسك بالجرم المشهود نهباً واختلاساً للمال العامّ، يخرج بكفالة قدرها خمسون مليون دينار أي ما يعادل واحداً من الألف مما اختلسه في صفقة سرقة واحدة. بينما موظف بسيط سرق ما طالته يداه، عبستْ في وجهه العدالة، وها هو يسمع صوتك في السجن.شخص مشمول بالاجتثات تقلب عليه الدنيا عاليها سافلها فيمنع من الترشّح لانتخابات البرلمان ويضيّق عليه الخناق ويترك لما يستحقه من عقوبة مساندته للطاغية زمن الديكتاتورية، وهو أمر عادل يشفي صدورنا نحن الذين اكتوينا بنار صدام واضطررنا لمغادرة العراق عقوداً، لكنّ بعثياً آخر مشمولاً هو الآخر بالاجتثاث ومفصولاً من عمله بعد التغيير بسبب انتمائه القديم للبعث، وله يدٌ سوداء في قمع انتفاضة آذار، وله مقالات في مدح الطاغية، ومتهم بالمشاركة في تجفيف الأهوار، تأتي العدالة إليه، وتربت على كتفيه وتمسح عنه الخوف وتجعله نقيباً للصحفيين، كلّ الصحفيين.العدالة ليست عادلة، وآلباتشينو كان محقاً حين قال على لسان الشيطان الرجيم: دولتي دولة قانون!
قرطاس :دولتي دولة قانون
نشر في: 7 مارس, 2012: 07:48 م