فوزي كريمحين تُوفي المفكرُ الأميركي الفلسطيني أدوارد سعيد في 24 سبتمبر 2003، بعد معاناة طويلة من سرطان الدم، كان قد ترك إنجازين أحدهما لم يكتمل. الأولُ حوارٌ طويل مع تشارلس غلاس، في فيلم يتجاوز الساعاتِ الثلاث، صدر على DVD تحت عنوان «أدورد سعيد: الحوار الأخير»، والثاني كتاب «عن الأسلوب المتأخر» On Late Style، الذي لم يُكمله.
استعرتُ الفيلمَ من المكتبة المحلية العامة، واقتنيتُ الكتاب حين صدوره عن دار Bloomsbury، عام 2006. كان الوقت الطويل، الذي صرفته مع حديثه، قصيراً لفيض المتعة، رغم الاستعدادات التي أحاولُها بين الحين والحين، مأخوذاً بالغنى الفكري المحلّق مع الأنفاس المتقطعة والتعب الظاهر، وبالطلاقة التعبيرية التي تصل مراميها بيسر. كنتُ، وأنا أشاهد وأصغي، أستعيد الأفكار التي انطوى عليها كتابه بشأن «الأسلوب المتأخر»، لأن أسلوب الطرح هنا ينطوي على الخصائص ذاتها التي حدّدها في كتابه حول «الأسلوب المتأخر» هذا، والتي درسها لدى كل من بيتهوفن، شِتراوس، موتْسارت، جان جينيه، كفافي. إنه لا يقصد بـ«الأسلوب المتأخر» المفهوم المعهود عند المفكر أو الفنان المُسن. مرحلة المعارف، والحكمةِ التي تَنتج عن الخبرة، والأسى الذي يتولد عن الحكمة، والتمكنِ من الحرفة، والتلميحِ إلى ما وراء القدرة على الفهم. إن سعيد يعني، على العكس، تمثُّل كل ما هو متصلّب، صعب، ومتعارض لا حلّ له.رأيتُه في الحوار داخل معترك الأزمات المستعصية التي يخوض الصراعَ معها دون أملٍ بحل: فلسطين، العرب، اللغة، الموسيقى. رأيتُه مثل أبطال كتابه: بيتهوفن الذي يحتدمُ داخلَ الصدوع والتشظيات المستعصية في أعماله الأخيرة، والتي فصلته عن موسيقى حاضره، رغم قدرته الأسلوبية الفائقة على التحكم. ريتشارد شتراوس الذي هجر مناخ ألمانيا الجحيمي ولجأ إلى موسيقى القرن الثامن عشر. الشاعر كفافي الذي أبى إلا التعاملَ مع مرحلة الحضارة اليونانية. العازف غلين غولد الذي امتنع عن العزف أمام الجمهور، وفضَّل العزف داخل استوديو التسجيل. إنهم يشبهون أوشنباخ بطل توماس مان، في روايته القصيرة «موت في البندقية». كائناتُ مَغيبٍ، هجرتْ عالَمها وعانقت منفاها، على حدّ قول أدورد نفسه. ولعل حالةَ المنفى هذه تُشكّل محوراً مركزيا في وجوده كله، كما شكّلت محوراً في حواره الطويل.ولكن هناك أكثر من محورٍ في حديث سعيد. محور فلسطين هو الأبرز، إذ يستغرق أكثر من نصف الحوار: ولادته، ثم هجرة العائلة إلى أميركا، الحياة في القاهرة، الدراسة في أميركا، الانشغال الفعلي داخل حركة فتح، الخلاف مع عرفات، منع كتبه في فلسطين لا في إسرائيل، رفضه لأوسلو، ثم مرضه، وانسحابه من المعترك. ويليه محورُ أطروحته المثيرة بشأن الاستشراق. وكيف أن سوء الفهم لم يحدث بين الكثير من الغربيين فقط، بل حدث بين الكثير من الشرقيين، الإسلاميين والمثقفين العرب، أيضاً.حين تُرجِم الكتابُ إلى العربية كان الاحتفاءُ به مثيراً، ولكنه احتفاءُ الكائنات التي تنطوي على جاهزيةِ العداء للغرب، وجاهزية الريبة الواهمة من الأصابع الخفية، وجاهزيةِ الوهم بأن العربَ والإسلام مُستهدفان في كل فعل غربي، حتى لو كان هذا الفعل في حقل العلم. وهاهو كاتب يخرج من رحم الثقافة الغربية، كما يرون، ليفضح مؤامرة الاستشراق!.أدوارد سعيد يتحدث عن انزعاجه من سوء الطوية هذه، فهو لم يتعرض بالشك مطلقاً لمسعى كثير من المستشرقين، ولم يربط مطلقاً بين السعي إلى المعرفة Knowledge في هذا الاستشراق، وبين السعي إلى القوة والهيمنة Power.والغريب أن الحوار لم ينصرف للموسيقى، التي تشكل محوراً أساساً في حياة أدورد الروحية والفكرية، مع أن كتابه الأخير «عن الأسلوب المتأخر» في جملته كتاب موسيقي، ونشاطه في حياته ونتاجه لا يبتعد كثيراً عن الحقل الموسيقي، فهو عازف بيانو ممتاز، ولقد اكتشف سحر هذا الحقل منذ السادسة من عمره، قبل أن يكتشف سحر القراءة والكتابة!.
أدوارد سعيد: الحوار الأخير
نشر في: 9 أكتوبر, 2009: 04:17 م