محمد خضيرترك محمود عبد الوهاب بعد وفاته مجموعة من المسودات القصصية الناقصة، تضمنتْها دفاترُه المؤرخة في أعوامه الأخيرة. بعضُ هذه المسودات شبه كاملة، وبعضها لا يحتوي سوى عددٍ قليل من السطور، بينما لم تتعدَ نصوصٌ أُخَر العنوانَ المثبت في أعلى الصفحة.
لقد أدركت القاصَ، المتعجلَ في سفره، صيحةُ الأجل، فتركَ الفسيلَ الذي غرَسَه دونما إرواء، وكان يؤمّل نفسَه بأملِ سيبويه عند احتضاره، فنقلَ عنه هذين البيتين في دفتر من دفاتره:rnيؤمّلُ دنيـــا لتبقى لـه فوافى المنيّةَ دون الأجــلْحثيثاً يروّي أصولَ الفسيل فعاش الفسيلُ وماتَ الرجُـلْ خطّطَ الرجلُ المتعجّل لإنجاز عدة مشاريع قصصية ونقدية، ووضعَ عنواناتٍ مختلفة للمشروع الواحد، كان يغيّرها حينما ينجز نصاً كاملاً منها. أما النصوص الناقصة فحملتْ أكثر من عنوان. شغَلَت الراحلَ صاحبَ الفسيل مشكلاتُ الكتابة، وتوالتْ عليه مشقاتُ الحراثة والغرس، فاحتصرَ ونصوصه في ركن ضيق من حقله الواسع، فكتبَ خاطرةً تحت عنوان "يا للكتابة من مهنة شاقة". فلما تعسّرَ مخاضُ النصوص رثى عمرَه الجميل، وآثرَ أن يتركَ غرسَه على حاله، دليلاً على اختصار العمر في لحظة قصيرة: "اللحظة أتلمّسُها بين أصابعي، ناعمةً وشفافةً وقصيرةَ العمر، ما أن تلمسَها حتى تذوبَ بين إصبعيك. الزمنُ لا مكوثَ لـه، ينسابُ بين أصابعك كأنه سائلٌ لا كثافة له. سائلٌ ليس كالسائل أيضاً. إنه يمتلك سيولتَه الخاصة".الحقلُ واسعٌ ومديد، واللحظةُ الذائبة تدعو صاحبَ الفسيل إلى العجلة والاختصار، ونهاياتُ العمر تتفرّقُ في الدفاتر سطوراً تشكو الوحدة والاحتصار. ما كان يُحسَبُ للسارد الطليق نصاً ممتلئاً بسائل الحياة الرائق، صار في لحظة الاعتكار نصاً رثائياً للذات المتراجعة إلى فضاء الغرفة المسدلة الستائر. صارت النصوصُ الدالةُ على غناها الحياتي والتقني، نفثاتِ مصدورٍ تتعثر في مساحتها الجرداء. لم تتبقَ للسارد الثريّ غيرَ مفرداتٍ تنتجها غرفة (الرجل العجوز) كالسرير والنافذة والستارة. كتبَ الرجلُ العجوز في دفترٍ سميك: "الفجيعةُ أن تفتحَ عينيك فجأةً وتجدَ عمرك لا يصلحُ لشيء. الفجيعةُ أن تحدّقَ إلى سريرك الغطاءات كما هي ولا أحد الفجيعةُ أن تعيَ الفجيعة". تنتقلُ اللحظةُ الناضبة إلى غرفة (الأعزب) في (عطلته) التي لا نهاية لساعاتها. السطور القليلة لهذا النص تكرّر ثيمةَ الجدب الإنساني، في افتتاحيتين مترادفتين، تجريان في إيقاع بطيء (بحجم الكفّ). أحياناً ينتظر الرجلُ الأعزب زائراً، فنتصور لحظتَه كما يتصوّرُها (مهرّج) متشدّق، عاطلٌ عن العمل. إنها لحظةُ نهاية العمر، حينما تغدو الكتابةُ تشدّقاً واعتصاراً لأوقات الضحك والاسترخاء والعطالة. وتبلغ اللحظةُ ذروتَها حين يفصل (الجدارُ) بين الذات والآخرين، الذين ينعكسون مثل صورٍ زائلة على جدار كهف السارد الأعزب. تكشفُ النصوصُ الأخيرة لمحمود عبد الوهاب عن حجم (الفوبيا) التي حصرتْ نصوصَه في فضاء (الغرفة) وعصرَتْها لتحوّلها إلى سائل بلا كثافة، يسيل مثل لحن لا يدوم سوى لحظات، فكأنها إحدى مقطوعات الموسيقار النمساوي فيبرن، أو أحد شقوق جدران شاكر حسن آل سعيد، أو صدى لأبيات سيبويه المحتضر في منتصف الطريق.rn1ـ سرير الرجل العجوز على طرف سريره جلس الرجل العجوز، ساقاه متدليتان، نعلاه على أرض الردهة مصفوفتان بانتظام، البوز على البوز، والكعب على الكعب، كما لو أن الرجل العجوز يهمّ بلبسهما الآن، والهواء ما بين قفا القدمين والنعلين راكد بانتظار من يخترقه. الرجل العجوز يحرّك قدميه، ينشّطهما، وهو يحدّق إلى ما يدور في الردهة. الردهة. أطفال يصخبون ورجال ونساء يتبادلون الصحون والمرضى منسحبون في أسرّتهم، صدورهم مرتدّة إلى ظهورهم يمضغون طعامهم باكتئاب . يدني الرجل العجوز وسادته إليه وهو ما يزال يحدق إلى ما يجري. هو وحده لا ينتظر زائراً. في شقته، الرجل العجوز شاباً على الجدار، تقصي صورته حاضره. الوجه الكامد للعجوز يستعيد نضارته. زوارق متراصة النهايات راسية في النهر، الجسر من بعيد أسود وكالح، وجوه العابرين ملتبسة وممحوة. ساعة البرج تشق الفضاء إلى أعلى. مجموعة كتب مرصوفة على جانب المنضدة، وكرسي خيزران متهرئ القاعدة، ومن شقوق الباب يتسلل الهواء. على المشجب بنطلون وقميص ودشداشة مخططة. الفراش على السرير منبعج من الوسط. ....................................
الرجلُ والفسـيل .. نصوص الغرفة
نشر في: 9 مارس, 2012: 07:36 م