سرمد الطائيالحكومة سعيدة بأن العراق "لا يوجد فيه أي سجين رأي". وان هناك قانونا يمنع الشرطة من ضربنا معاشر الصحفيين. هذا ما فهمته من لقاء حصل الأربعاء الماضي. فقد مشينا على الأقدام ساعة كاملة كي ننجح في الوصول إلى مؤتمر أقامه المتحدث باسم الحكومة علي الدباغ للتواصل بين إعلام الدولة والصحافة الأهلية.
وفي الطريق لم نكن الوحيدين الذين يقطعون مسافات طويلة مشياً، بل كان يشاركنا هذه "المسيرة" كثيرون ذاهبون إلى أعمالهم أو مصالحهم. وعرفنا فيما بعد أن سبب انقطاع الطرق هو جولة قام بها السيد نوري المالكي في بغداد كي يطلع على استعداداتنا لاستقبال الزعماء العرب، أو شيء من هذا القبيل. وطبعا لم نتأفف أو نضجر فمن حق الرجل ان يتجول في عاصمته متى شاء، فهو "مدبر أمور الجمهور" وأمنه الشخصي غال علينا "مشيا على الإقدام أو حبوا على الركب".والحقيقة إنني محظوظ مع عدد كبير من الشرفاء العاملين في المكاتب الصحفية في أجهزة الحكومة، وقد كانوا سببا مباشرا مرات كثيرة في حصولنا على معلومات شيقة تهم الناس بشأن قضايا حساسة، رغم كل مآخذنا وملاحظاتنا على أداء تلك المكاتب.بدأ المؤتمر بكلمة للسيد علي الدباغ لم يأت فيها على ذكر أي مشكلة، ورسم بحكم موقعه الرسمي، صورة وردية لحال الصحافة والإعلام. وقال "إن العراق يفتخر بأن سجونه لا تحتفظ بأي سجين رأي او كلمة" ولعل هذا صحيح لكن المشكلة لم تكن هنا أبدا طيلة الأعوام الماضية، فالحكومة تركت الصحفيين خارج السجون، وقامت مقابل ذلك بحبس المعلومات واعتقالها وإخفائها. ولو نظرنا إلى أهم حقلين يبحث عنهما الصحفيون وهما قطاع المال وقطاع الأمن، لرأينا أن صحافتنا عمياء بشكل كلي تقريبا عن المعلومات المهمة التي تخص أموال الناس وأمنها. وأكثر الموظفين صمتا وتهربا من الصحافة هم العالمون بكيفية توزيع الثروة وتفاصيلها المثيرة. إلى جانب العالمين بأسرار الأمن وأخطائه وفرص التطور المهدورة التي كانت متاحة لعساكرنا وشرطتنا طيلة أعوام أنفقت خلالها المليارات الأمريكية والعراقية دون نتائج توازي التضحيات الكبيرة التي قدمتها المؤسسة الأمنية او المدنيون بدمائهم وأموالهم.وحين يمتنع عليك أن تعرف التفاصيل التي تهم الناس في قطاعي المال والأمن، فهل من المهم حينها ان يبقى الصحفيون أحرارا او يلقى بهم في السجون؟ وهل يكون هناك فرق كبير بين الحالتين طالما أن الصحافة عمياء تقريبا في هذا الإطار؟وليت الأمر اقتصر على هذا اللون من "العماء" بل إن نقاط التفتيش تصاب برعب حقيقي حين ترى لدى المرء كاميرا فوتوغرافية او كاميرا فيديو صحفية. وقبل فترة قصيرة كنا نحاول تصوير منظر هائل على الفرات في بلدة عراقية لكن الجيش المتواجد هناك دخل في "إنذار حقيقي" حين رأى فريق التصوير، وكأنه اكتشف خلية إرهابية. وكنا محظوظين بأن ممثلا للحكومة المحلية في تلك المنطقة، جاء برفقتنا "لتسهيل المهمة" لكن الجيش لم يتعاطف أبداً مع ممثل الحكومة نفسها، واعتذر بأن التعليمات صارمة كل الصرامة في ما يتعلق بتصوير ضفة نهر او بحر! ولا ادري كيف تصدر حكومة في القرن الحادي والعشرين تعليمات كهذه، تحرم الصحفي حتى من تصوير نهر او جسر ضمن قصة خبرية، بينما تعبث في سمائنا آلاف الأقمار الصناعية الثابتة والمتحركة وتصور ما تشاء سواء رفض سلطاننا ذلك او شاء؟وفي المؤتمر نفسه قال المتحدث باسم وزارة النفط عاصم جهاد متحدثا على عكس صورة السيد الدباغ الوردية، إن الصحفيين العاملين مع الحكومة لم ينجحوا في إيصال المعلومة للناس بشكل كاف لأن المسؤولين التزموا بمستويات كتمان لا مبرر لها. ولأنهم لا يفهمون معنى انتقال العراق من فضاء مغلق الى أجواء انفتاح سياسي وإعلامي. لكن حكومتنا فرحانة حقا بأنها لا تمتلك أي سجين رأي في العراق الذي قتل فيه مئات الصحفيين، وجرى ترويع مئات مثلهم.. وفي عراق يعيش عساكره أقصى درجات الاستنفار بمجرد رؤية كاميرا!
عالم آخر: الحكومة والخوف من الكاميرات
نشر في: 10 مارس, 2012: 10:34 م