محمد عطوانمن الصعب على عاقل اليوم أن يضع معايير للثورة كالتي كانت توضع لها في السابق أو أن يقيس عليها لمعرفة نجاح أو فشل ثورة تتكشف عناصرها للتو.. ما أعنيه هو الصعوبة في استيعاب حركة العناصر الساندة للثورة هذه الأيام، فهي لم تكن عناصر متشكلة من قبل.. وبنا أن نعاين جيلا من الشباب غير المؤدلج يظهر بقوة في المشهد الاجتماعي السياسي، الذي هو لا ينتمي إلى ما يسمى بالحشد أو الجماهير. جيل يملك وعيا كافيا بما يحتاج إليه في مسائل التغيير، جيل عاش إخفاقات السلطة وهزائمها منذ ولادته، وانعكاساتها فيه، ولذلك يحاول أن يتخلص من هزائمه هو أيضا، لاسيما أنه يملك شهادات حياتية حية بشأنها تؤهله لفهم ما يعنيه نظام سياسي يؤكد على أبدية استمراره بالحكم.
ولأجل ذلك نكتفي بأن نشير إلى مقوّم من مقوّمات الثورة المتشكلة اليوم، والذي يتجلى على هيئة انتظامات عبر النت، وهي انتظامات غير محكومة بمحددات إيديولوجية، ويبتعد سلوك الأعضاء فيها عن البرمجة المشددة، فهم ينتهجون سلوكا يتجاوز الحذر والعقلانية، ولكنه أرقى من أن يكون سلوكا حدسيا ساذجا. يقول مانكور أولسن مؤلف منطق الفعل الجماعي بما يعضد مثل هذا الطرح: "أصبح من الاستحالة فهم الفعل الجماعي إذا ما احتفظنا بفرضية الفعل العقلاني (المبرمج)، أي؛ عندما يقوم الشخص باختيار ما، لا يعرفُ إلا باحتمال تقريبي ما سيكون عليه حال العالم حين تتحقق نتائج هذا الخيار". لذلك، يمكن أن تُحبَط التعقيدات تباعا من خلال الممارسة وليس غيرها أحيانا، أي؛ من خلال الرغبة في الاختبار، ليعطي الإبداع من داخل الممارسة قيمة إضافية للفاعلين، كما يصبح أي انتقاد من خارجها (الممارسة) فقيرا، ما يجعل البعض غير عارف بما في هذا الداخل. فإذا ما تم إدراك معنى الحقيقة الانتظامية الجديدة المرتبطة في كثير من الأحيان بمفهوم الافتراض يصبح الإبداع متاحا بطرق شتى.حيث تتوارد الأفكار عبر التفاعل، ويتاح التعديل وفقا لترابطات النص التشعبي وتداخلاته (وأعني بالنص هنا النص التشاركي أو التفاعلي). نصٌ لحظي، مثلما هو؛ لعبة احتمالية يدخل في إمكانات عدة، ويحتمل مسارات مختلفة. عندئذ ستتراجع ــ تبعا لهذا الخيار ــ شعارات القائد الأوحد والحزب الواحد الملهم لثورات الجماهير.ويمكن الإفادة في هذا السياق من تجربة مصر عندما صنع المتظاهرون التغيير. لقد انصب تركيزهم ابتداءً على تعديل المواد الدستورية المتعلقة بالصلاحيات الواسعة الممنوحة لرئيس الجمهورية المصرية، والتي تطورت إلى مطالب أكثر قوة وأعمق أثرا أدت إلى تغييره وتشكيلته السياسية في ما بعد. وهذا لم يتشكل عملياتيا عبر طاقة الواقع، إنما من خلال طاقة الافتراض الواقعة على مسافة من الواقع.ففي عالم معقد ليس من السهل التوصل إلى رؤية كاملة عما يمكن أن تكون عليه صورة العالم المتوقعة، فالمطالب والسيناريوهات يشكلها ويبلورها الحدث القائم ذاته، ولا يوجد هناك ـ بحسب الفرض ـ مطالب واضحة ومسبقة وتبسيطات. إن ما هو موجود سلطة إنفو ـ تقنية بما تتوفر عليه من مستويات في التعامل مع الحدث متمكنة من فك التشابكات مهما بلغت درجة تعقدها. يشير باشلار إلى أن الاكتفاء بالبقاء على مستوى ساذج وحدسي ـ أي المستوى التجريبي ـ في استيعاب الوقائع الجديدة معناه الحكم على الفهم العلمي بالركود، لأنه لا يستطيع أن يعي ما يفعله. وعلى غرار ذلك إذا بالغ المرء في إعطاء أهمية للجانب العقلاني، ربما إلى درجة الادعاء في النهاية بأن العلم لا يزيد عن كونه انعكاسا للنظام الفلسفي القائم فإن ذلك يؤدي هو الآخر إلى مثالية عقيمة. فبالنسبة إلى باشلار أن يكون الإنسان علميا ليس معناه إعطاء امتياز للفكر أو الواقع إنما هو الإقرار بالصلة الوثيقة بين الاثنين، أي أنهما متشابكان. ولذلك، الذي يجري اليوم لا ينفصل عن ضبط المسافة قريبة الصلة بين الواقع والافتراض أي؛ محاولة تدوير الواقعي، بمعنى ترحيل الواقعي إلى مستوى الافتراضي وتنضيج خلاصاته واختبارها في الواقع من جديد.كما أن المعايير التي يمكن أن توضع لثورة ما، تبقى مجرد تصورات لما يمكن أن تقوم عليه ثورة ما، والواقع انه لا توجد وصفة جاهزة يمكن استعارتها، أو من شأنها أن تفيد في تغيير أوضاع مجتمع من المجتمعات، وهو ما يدفع إلى القول بأن الوضع في العراق لا يشبه الوضع في سوريا أو في مصر، لا في طبيعة النظام السياسي ولا في طبيعة النسيج الاجتماعي ولا في حجم التدخل الخارجي في شؤون أي دولة مما ذكرنا. هذه الرقع الجيو سياسية التي تسمى دولا وان كانت متقاربة جغرافيا لكنها تتمايز بعضها عن البعض الآخر إذا ما أخضعت لحسابات الهيمنة الدولية والإقليمية في المنطقة، إنها تخضع لاستراتيجيات مُرسمة كلاً على حدة على الرغم من وقوعها ضمن نطاق ما يسمى بالشرق الأوسط ..لذلك قد تطغى إبان التغيير شعارات دينية أو غير دينية في دولة ما، وقد تخيف المراقبين مما سيفضي إليه حال التغيير، لكنها ليست وحدها الشعارات التي ستحكم إيقاع التغيير، مثلما هي القناعة اليوم بأن العراق لا يمكن أن يحكم بواسطة نسخة إيديولوجية واحدة على الرغم من حدة الإيهام بذلك، حيث يؤخذ بعين الاعتبار تغير إستراتيجيات الفاعل الخارجي اليوم (مثال على ذلك التعاون الإيراني ــ الأمريكي الذي يجري التنسيق له منذ أسبوع لإمكان التسريع في تغيير نظام الأسد) ، ما سيغير بدوره طبيعة التلوينات والشعارات المطروحة داخل كل دولة من مستوى خطاب إلى مستوى خطاب آخر.نحن نتحدث عما يسمى بالثورة، والثورة لا تقف عند حدود تغيير النظام السياسي أو عند حدود ما يمكن أن تكون عليه النسخة البديلة الآنية، بل ستستمر (الثورة) في اختبار نسخها مرا
ربيع بعناصر ثوريّة!
نشر في: 11 مارس, 2012: 06:59 م