ماجد موجدأعترف بأنني لم أجتهد في معرفة الحياة المصرية من خلال دراسات معمقة لأكِّون تصوراً يجيز لي فهمها كما ينبغي وفق دراسات سوسيولوجية ،لكن وفي مصادفات عابرة وقعت في يدي بعض المقالات المتخصصة في هذا الشأن.. غير أنني قرأت مصر وكوّنت فهما خاصاً من خلال تعايشي ومتابعتي إحدى صحفها يوميا على مدى أكثر من عامين...
كل منهما كان مختلفا تماما عن الآخر.. عام قضيته مع وضع عاش المصريون ثلاثين عاما مثله.. وعام عشت فيه واقعا مصريا بمتغيرات وظروف ومشكلات ربما كانت غريبة حتى على أغلب المصريين الذين لا يريدون أو بشكل أدق يصعب عليهم تصديقها وأعني منذ اندلاع ثورة 25 يناير وتحقيق هدفها الأهم وهو دفع رئيسها إلى التنحي ..مرورا بكل التبعات الشائكة بحلوها ومرها.الأيام الأولى التي دخلت فيها مصر وبعيدا عن تصوري في ما يخص تمتعها بالقدرة على إعطاء أي غريب مساحة واسعة من الاطمئنان والإحساس بإن تعبير (مصر أم الدنيا) ليس مجازا.. أحسست بحجم الحرية التي تتاخم بطرف قريب من حريات الدول الديمقراطية على الرغم من أن المصريين يرونها حرية شكلية وغير حقيقية وغير كافية وغير منصفة، لكني أتحدث بوصفي عراقيا عاش في زمن نظام حكم جرى التصور عنه أن حاله مثل حال كل الأنظمة الشمولية العربية آنذاك.. وتلك رؤية تعمم على غير هدى، ذلك أن نظام صدام مثلا لا يمكن مقارنته حتى سقوطه بنظام مبارك على الرغم من كل مساوئ مبارك التي بانت وفاضت وزاحت ما دونها.. وأعني في ما يخص هامش الحرية تحديدا وان كان غير معترف به. تلك الفكرة لم تفعّلها مشاهد التظاهرات التي تقام هنا وهناك ضد النظام وحكمه ولا حتى الاعتصامات ذات المطالب الفئوية التي (يتجرأ) بها مهنيون أمام مؤسسات حكومية مهمة مثل مبنى مجلس الوزراء أو مجلس الشعب ولا في الحركات التي تأسست ضد نظام مبارك وفي عهده ومنها على سبيل المثال (حركة كفاية) ولا حتى في تصريحات الأصدقاء المدافة بشتائم لمبارك الذين كانت تجمعني بهم لقاءات في أماكن عامة لأن كل ذلك ربما يقال فيه ما يقال، لكن ما عمّق أمر وجود متنفس حرية هو الإعلام وأعني تحديدا جريدة المصري اليوم التي ظللت مواظبا على اقتنائها بشكل يومي .ثمة مقالات كثيرة قرأتها وتابعت كتّابها في جريدة المصري اليوم لأهميتهم وجسارتهم لكن ما شدني أكثر أو ما جعلني أشعر بأن مقالاته هي الصورة الأكثر وضوحا لمعرفة المصريين هي مقالات الكاتب(جلال عامر) الذي توفي مؤخرا (بسبب مصر) فهو كاتب لا تتلمس في مقاله التهيئة في اختيار ما يجمل عباراته أو ما يبرر قوله وهو لا يهدف إلى إعلاء شأن نظام مصر آنذاك أو الحط منه، ولا يريد أن ينال مدحا جزاء شجاعة قول يقوله وإنما هو يكتب مصر كما هي.. يكتب شعبها أفرادا وجماعات وحكومتها ونظامها أفرادا وجماعة أيضا، يكتب ثقافة عامة وتقاليد وأخلاقا وهموما وحاجات وسخريات وأفراحا وأحزانا وكسران خواطر وتأففا وعشقا ومهنا وقوانين.. بلغة يتداخل فيها الفصيح والعامي وهي لغة تمتاح من تاريخ مصر كله قديمه وحديثه، مصر الفرعونية ومصر الفاطمية ومصر العثمانية ومصر الثورات والانتصارات والخيبات، من مقالات جلال عامر ممكن أن تتعرف على الحواري منزلا منزلا وتشم رائحة القدور التي في مطابخ الجياع ويتلطف عليك بمزحة عن موائد الميسورين، تعرف تغنج النساء الباذخ ووفاءهن حد الانهيار كما تسمع ضحكهن وعويلهن وهياج وقاحتهن الذي لا يجارى. ينقل لك عن الناس حتى تدرك أن لله مهدا مشعا في بطين كل قلب مصري ويدير بصرك إلى عشش الشياطين في البطين الآخر، تعرف كم أن شعب مصر شعب فئات مختلفة ومتلاصقة مع بعضها، تتحرى في معاني ما يكتبه لتكتشف أن كل معنى وقيمة أخلاقية لها أناسها المتطرفون، ثمة تطرف في الكرم وتطرف في السخرية وتطرف في الشجاعة وتطرف في الغلب وتطرف في الوفاء وتطرف في المكر وآخر بالوشاية ومثله بالذم والمدح وتطرف في الانتقام وآخر في التسامح والعفو..الخ .كل هذا يكتبه جلال عامر في مقال قصير.. انه يلبس الجملة بأخرى والموضوع بغيره حتى انه يعطيك الكثير من الأفكار مكثفة ومكتملة في الوقت ذاته خلال كلمات لا تتجاوز في أحايين كثيرة الأربعمئة كلمة، كأن جلال عامر حتى في طريقة كتابته المتفردة يبعث برسالة ـ وهو الذي لا يريد ذلك ـ أن مصر هكذا.. بلد زاخر بكل شيء فلا توجد فكرة بعينها تعميم على شعبها، لا يمكن لأحد أن يكتشف أسرار مصر لا في ماضيها ولا في حاضرها.. مصر هكذا مجموعة كبيرة من الأفكار والأخلاق والغايات والتصورات مدحوسة في الأربع والعشرين ساعة من اليوم. هذه المدة القصيرة من زمنها تجد فيه زمنها الطويل والعريض والكثير والكبير والواسع..الخخرج جلال عامر إلى رؤية مصر من نافذة شقته قبل شهر تقريبا.. آخر ما قاله: (المصريين بيموتوا ببعض) ومات.. لكن مصر بقيت تمضي.. في طريقها تغيير كتابة دستور وفي طريقها اختيار رئيس لكن لا أحد يعرف طريقها إلى أين!
مصر... كما كتبها جلال عامر
نشر في: 13 مارس, 2012: 07:56 م