سرمد الطائي بعيدا عن كل ضوضاء السياسة ومحاولتنا فهم ما جرى وما سيجري، يطيب لي أحياناً أن أنصت باهتمام لرجال الأعمال العراقيين والمستثمرين الأجانب كي أحاول البحث عن أمل هنا أو هناك بحدوث تحول ينعكس على حياة النساء والرجال في بلادنا.. فلعل ما ستخفق فيه السياسة سيحققه رجال الأعمال المعروفون بانفتاحهم وحرصهم على مقاييس النجاح وبحثهم عن الأعمال المنتجة المؤدية إلى ألوان الرفاه والفائدة العامة، بدل الجهد المهدور والمكرور والمتعثر لأجهزة الدولة.
لكن أول ما يواجهك حين تخوض حوارا كهذا، هو حالة كبيرة من الإحباط تخيم على كل اندفاعاتهم.. يقولون إن العراق سوق كبيرة تغري الكبار والصغار بالعمل.. وان التحول التنموي والتحسن على مستوى البناء واستحداث المصالح الجديدة، سيأتي بالتأكيد. لكن الجهاز البدائي في إدارة الدولة يصعّب كل المحاولات والجهود، ويؤخر الهدف شهورا وسنوات.مدير مفوض لإحدى الشركات العراقية يتحدث لي عن تجربة بسيطة. يقول إن المشاكل أمر معتاد في كل مكان. لكنها في العراق من طراز لا يطاق. فهناك مدراء شركات منتجة وربحية عراقية وأجنبية، يقفون في طابور طويل داخل بناية مهملة، انتظارا لدفع ضرائبهم. المدير قادم بقائمة عوائده وأرباحه ويريد أن يمنح طبقا للقانون، جزءا من تلك الأرباح للدولة كضريبة. وهذا يعني أن الشركة ومديرها يستحقون من الدولة كل تقدير، فهم أنجزوا أعمالا وحققوا أرباحا وجاءوا لدفع ضرائب كبيرة للدولة كي يجري إنفاقها في النفع العام. وبدل أن تستقبلهم الدولة بالأحضان استقبال الفاتحين المنتجين في بلاد الكسل والإخفاق هذه، فإنها تجعلهم يقفون "مهانين" ساعات طويلة أمام باب هذا الموظف أو ذاك.صاحبنا المدير يتحدث عن التفاصيل بألم، وهو يتألم أكثر على مشهد مدراء الشركات الأجنبية التي يفترض أن تنقل لنا التقنيات الحديثة والأساليب الجديدة في إدارة الأعمال والأموال، لكنها تفاجأ بأن عليها الوقوف في طابور بدائي، والتعامل مع نظام محاسبة بدائي، والوقوع ضحية طريقة إدارة متهالكة وبدائية.. صاحبنا يسأل "كم شركة مهمة غادرت العراق هربا من هذه الإجراءات؟".. وهذا سؤال سمعته من كبار المسؤولين مرات عدة، وكبار المسؤولين لم يجدوا جوابا عليه لسنوات عدة، رغم إن في وسعهم الذهاب إلى اصغر بلد مثل الأردن وربما السنغال، وسؤاله عن كيفية التعامل مع حالات كهذه.. وسؤاله عن الطريقة المناسبة "لتدليل" الشركات الاستثمارية.. وعن الطريقة المناسبة لاستقطاب المؤسسات الحديثة التي تنقل لنا تفاصيل وأساليب نتعلم منها كيف نعيش بشكل حديث، وفي شوارع نظيفة، ودوائر محترمة، كي نحصل في النهاية على دولة محترمة ونتوقع منها إنتاج طبقة تنفيذيين وساسة محترمين.. لكن كل هذا يتأخر ويتلكأ.رجل أعمال آخر تحدث عن نماذج من الفرص المهدورة بسبب عوامل من هذا القبيل. انه يسرد تفاصيل مزعجة. تأخذ معاملتك إلى الدائرة الكذائية وتتحمل الوقوف في طابور طويل كي تعرف هل وافقوا على عرضك ام لا.. فتتفاجأ بموظفة صغيرة أو كبيرة تجلس وراء طاولة وتقوم "بفتح الدرج"، في إشارة إلى أن على المتقدم ان يضع مبلغا من المال في "الجرار" هذا مقابل تسهيل معاملته. يقول انه شاهد في هذا الموقف ممثلا لشركة أجنبية.. ظل يحدق في الدرج المفتوح ثم يعود ليحدق في وجه الموظفة.. ثم يعود ليفكر في كل الأنظمة البدائية التي يطلب من شركته القادمة من بلد متقدم، أن تخضع لها هنا.. ويتذكر أن عليه أن يخضع في العراق لنظام بدائي، وظروف أمنية قاتلة، وأمزجة يصعب فهمها.. ثم يسأل: بلدكم الذي يحتاج ثورة في البناء، لماذا يتعامل معنا بهذه الطريقة؟الإنصات لشكوى من هذا القبيل تذكرني بكبار خبراء البترول الذين يواجهون ألف عائق حتى يحصلوا على فيزا دخول العراق.. ثم يضطرون للنوم في مطاراتنا أياما في بعض الأحيان، انتظارا لتصحيح خطأ ارتكبه موظف في كتابة اسمهم أو بعض تفاصيلهم، في ورقة الفيزا. ومثل هذه وسواها وعداها وعلى شاكلتها آلاف التفاصيل التي تجعلك في مواجهة أمل نتمسك به جميعا لكنه يولد على شكل مشوه كل يوم.. هل هي امة طاردة للفرص الجيدة، ام دولة عاجزة عن تمثيل رغبات الأمة بالرفاه والتقدم.. ام قادة وساسة انشغلوا بكل شيء إلا بكيفية تدبير أمور الجمهور؟
عالم آخر:طابور البزنس مان.. و"جرار" الموظفات

نشر في: 13 مارس, 2012: 10:25 م







