هاشم تايهالقصة لدى محمود عبد الوهاب نتاج رؤية بصريّة خالصة، وتمثيل لهذه الرؤية باللغة... إنّه يرى فيكتب.. وعيناه هما اللتان تكتبان.. ومدار قصّته مشهد أو صورة يتمتعان بطاقة حياة تؤهلهما لينوبا عنه مُظهريْن قدراً ملحوظاً من الاستقلال عن إرادة القاص، ما يسبغ على قصّته سمة موضوعيّة..
وربّما بسبب تعلّقه بالصورة غدت قصته تمامَ صورةٍ، لا تطلب غير تمامها، في نصّ شديد التركيز، مضغوط داخل إطار صورة مرسومة بأقلّ ما يمكن من المادة اللغوية.. ومساحة قصته هي مساحة صورة، لا مساحة لغة، ولهذا تبدو مختزلة، ومنقّاة من الضجيج اللغوي الذي يبغضه محمود أشدّ البغض في القصّ.. وتظهر الصفحة التي يكتب عليها نصّه القصصي أقرب إلى سطح تصويريّ يرسم عليه القصّة/ الصورة، منها إلى صفحة مبسوطة لمادة لغوية.. إن المتعة الجماليّة، في قصصه، تتحقق بَصَريّاً، واعتماده الصّورة حرّره من العمل من خارجها، وجعل قصّته كصورة تنمو وتتسع بممكناتها الخاصّة، وبتكيّفات مادتها وعناصرها، بمعنى أن حياتها هي التي تصنع حياتها، وكأنّها تنجز نفسها بنفسها بعفوية واستقلال.إنّ الهيئات التي يظهر بها الأشخاص، ومعالم الأشياء، وما تبدو عليه الأمكنة والفضاءات هي ما يجتذب إليه محمود عبد الوهاب ويطلق خياله، وقدراته على الخلق... وأظنّ أن اهتمامه بما يفعله شخوصه أو ما يقولونه أقلّ من اهتمامه الفائق بما يبدون عليه. وأعتقد أنّ المرئي، في وعي محمود عبد الوهاب، هو قصّة كامنة في العالم الخارجي يمكن اقتناصها ونقلها على ورق بأشكال من التحوير، أو الإضافة، أو الحذف. يتمتع محمود بقدرة مدهشة على المراقبة والرّصد، وحشد شتات المرئيات أمام الوعي في تشكيل قابل للقراءة، وليس أدلّ على ذلك من اعتياده إطلاق تعليق على ما تراه عيناه بسرعة عجيبة..ومثل مصوّر أو رسّام يُبدي محمود عبد الوهاب، في نصوصه كلّها، شغفاً بإنشاء جمالية جاذبة لمادته المرئية، إذ هو شديد العناية بتنظيم عناصرها وإعادة إنتاجها في تكوين أو شكل جاذبيْن، بحيث يُخيّل إليك، أحياناً، أنها مرسومة لذاتها، أو لنقل إنّ بالوسع اقتطاعها من النصّ اللغوي/ القصصي لتستقلّ بذاتها محتفظة بشخصيّة مميّزة... ويبدو لي أنّ قصص محمود القصار الأربع التي أتحفنا بها بتوطئة آسرة، القاص محمّد خضيّر، ونشرتها (المدى) في ثقافية عددها 2419 الصادر في العاشر من آذار هذا العام كمسودات قصصيّة، هي الشكل الطبيعي الذي ستؤول إليه القصة لدى محمود- لو أنّه بقي معنا في الحياة- في تطوّرها الأقصى الذي ستصير إليه، كقصّة تشكيليّة مرسومة باللّغة، قوامها صورة متوحّدة ملتمّة على تفاصيل بعينها، وسيكون الحدث فيها مضمراً متروكاً توقّعُهُ للقارئ الذي سيكون أمام مهمّة اقتراح حدثٍ بالحدس، أو عبر تحريك تفاصيل الصورة وأطرافها إلى جهات بعينها، وبقصد غايات يدفعها إليها بموجّهات ما يراه. كأن محمود عبد الوهاب يندفع وهو يطوّر شكل قصّته فيخترع ما يمكن أن ندعوه القصّة اللّوحة التي تستبعد/ تعلّق الحدث الذي سيتولّى القارئ اختراعه، أو اكتشافه بمآلاته، وسيغدو هذا القارئ أقرب إلى مشاهد لوحة تشكيليّة- تشخيصيّة- لرسّام، رغب في أن يقصّ قصّة بالرسم فخذلته عناصر لغته البصريّة المجرّدة عن القدرة على التزمين.وإذا جرى، اليوم، اعتبار هذه النصوص مجرّد مسودات قصصيّة، أو اسكتشات قصصيّة، فليس مستبعداً، في يومٍ ما، ترسّخُها كشكل جديد للقصّة القصيرة.. ولقد حدث نظير ذلك في الفن عموماً، عبر تاريخه، إذ أنّ أشكالاً فنيّة ظهرت شاذة/ نابية خلال عمليات التخطيط الأولي، وإنجاز المسودات، أو خلال عمليات التدريب الفني المجرّدة من الهدف، لم تلبث أن حظيت بانبهار من المعنيين، ثمّ جرى تقليدها، بعدما أثبتت جدارتها الجماليّة، لتستقر أخيراً كشكل فني معترف به. تتباين الصورة في هذه القصص/ اللوحات بين صورة مهيمنة واحدة، وصورة تتفرّع منها صور أخَر، أو تتضاعف. وبعض هذه الصور يتسم بطبيعة متحرّكة، في حين يبدو بعضها الآخر أقرب إلى هيئة ما يعرف في الرسم بطبيعة جامدة (still live). أخيراً يمكن وضع القصص الأربع في ترتيب يعكس وجهتها صعوداً نحو خلق نموذجها الأمثل في (القصّة اللوحة) فتكون بهذا التسلسل: 1/ الجدار 2/ سرير الرّجل العجوز 3/ عطلة الأعزب 4/ تلك اللّحظة، ماذا يفعل العالم..
الـقـصّــة الـلّـوحــة.. فـي مسوّدات محمود عبد الوهاب
نشر في: 14 مارس, 2012: 09:21 م