هاتف جنابي"تعالُوا يا أصدقاءَ الصيدِ لنصطادَ وجهَ الشطئان المتسلقةِ حدبةََ البحر.. إنني أنتمي قسرا إلى قبائلَ تشاكس كلَّ الأبجديات المنفية، إلى سلالاتٍ ساقطةٍ من خلجان الأقمار".(السفر داخلَ المنافي البعيدة 1993).
بعضٌ من أصدقاء الصيد جاءوك يا أبانا لا ليَرْثُوك، لأنك الآن أنت الذي ترثينا، ولا ليبكوكَ لأنك الأحقُّ منا في التخفيف عن آثامنا وهي كثيرةٌ عُدّةً وعددا. قدموا إليك، لوليمةٍ دعوْتَنا إليها، وأرجوك يا أبانا: لا تقلْ: لماذا تجشمتم كل هذا العناء، وسفحتم كلَّ هذه الكلماتِ في غيابي! جاءوك، لأنك حاضرٌ دائما بيننا حتى حينما لُذتَ في "سودرتالية" قبل عقود، حتى أصبحتْ هذه الأخيرةُ بالنسبة للبعض معروفة مثل حجرة البيت وإكرةِ باب الدار، صارت هي السويدَ كلها. أقول: جاءوكَ، ليسألوك ويتحاورا معك عن الشعر ونقاء الكلمة، عن رفع المسافة بين المحبة والكره، بين الإنسان والإنسان، بين العدم والوجود، بين عزلة الكائن البشري - أعني حقه في خصوصيته وبين انفتاحه الضروري على الآخر. في هذه اللحظات، حيث تستريح من إدقاع الحياة التي أغنيتَها ومقالب المنفى الذي وصلتَ أقصاه، حيث تشربُ يداك من كأس السماء السابعة، تُذَكّرُنا بمصدر منفانا الذي يبدو وكأنه صارَ أزليا، بطفولة الطين، بمشتركاتنا في الماء والهواء والتراب، بالرافدين، والثيران المجنحة والجبالِ والأسد الرابض عند سرّةِ وادي الرافدين وشجرة آدم، وصحوةِ إبراهيمَ - حقنا لدماء الأبرياء والأحبة، من سلالة بني الغبراء. كنتَ ومازلتَ تُذكرنا بأننا قد نُذْبَحُ لشدةِ حبنا للناس وتعلقنا بالحياة حرةً، بفقرنا وغنانا، ألستَ أنت القائلَ: "يوميا دجلةُ مع سُرَادِقِه البيضاء ينامُ في سفوحي. اللهُ يُغْدِقُ على حواسّي أفراحا جديدة بينما يُضاعفُ فقري، لكنني لا أحسّهُ...طفولتي شبهُ نسورٍ محلقة في فضاءاتٍ بعيدة...". على أنني أسألك: لماذا بقيتْ هذه الفضاءاتُ بعيدة دائما، حيثما وقفتَ ونظرتَ؟ لا تقلْ لي إن هذا الكلام ليس لكَ: "وقد دَعُوكَ أميرا. تُرى متى ستعودُ وكلماتكَ مثقلة بكنوز الحكمة؟ ... أيها الأميرُ الضائعُ. أمُّكَ تناغيك بكلماتِ أرجوزةٍ عراقية وترددُ بلوعةٍ أصيلة. آهٍ، متى سيعود الأميرُ؟"(من نص- الطفولة). نعم، كنتَ فقيرا أسوة بالكثيرين من أبناء أرض السواد، وهذا لغزُ أهل بلادٍ تُمْطرُ ذهبا ومَنّا، لكننا لم نصلْ بعدُ إلى حلٍّ له، قد تدلنا أنتَ عليه ذاتَ يوم، أبانا المخضّبَ بالنور في هذه اللحظات. كنتَ معدما في طفولتك لكنك أصبحتَ من أثرياء العالم في خيالك وكلماتك العابرة للقارات. التقينا في كركوكَ مطلع السبعينات عبر ثلاث سنواتٍ متتالية، رغمَ أنني لم أرَك مطلقا. أكيد، كنتَ منشغلا بلملمة أطراف أوراق لجوئك وترتيب مأواك وعدةَّ "العشاء الأخير". كنتَ تمرّ طيفا جميلا رحيما دافئا في بعض جلساتنا: تَذَكّرَك كلٌّ من أبي أميمة- جليل القيسي، وجان دمّو الذي قال لي ذاتَ مرة مُتنَدّرا: "لا تخفْ عليه، سينقذه قلبه الكهنوتيُّ وكلماته المجنحة. لا تخفْ عليه، لقد نجا وتركنا نتحسّرُ على قطرة العرق"! في الحقيقة، جليل هو مَنْ نبّهَني إلى أنك قد سلكتَ طريقَ الكهنوتية. ظننتُ بعدها أنك انقطعتَ عن قول الشعر، ومن حسن حظنا أن ظنوني قد باءتْ بالفشل. في الحقيقة، الشعرُ في أحد أوجهه وأعماقه كهنوتي. أنتَ حافظت على هذه العلاقة البديهية، لنقل"الأبريورية" حيث تنعدم الفوارق بين القشرة واللحاء، متنفِّسَا به ومعه، صاعدا بالشعر نحو مدارك إلغاء الحدود الوهمية بين الأشياء والمسميات، بين السواد والبياض، مقيما هناك حيث العماء الأزلي. مثلما قادتك الكلمةُ بروحانيتها قُدْتَها أنتَ طوعا إلى منبعها ومعينها اللذين لا ينضبان: الحرية مشفوعة بالبهاء وصفاء السريرة والخيال المتوجِ بالمحبة ويوم الخلاص الموعود- هذا الأمل الكبير الذي ينشده النورُ ذاتُه وجوهرُ الخليقةِ ذاتُه والمحبةُ ذاتها. أليستْ تلبيةُ دعوتك الباذخة في دماثتها وسطوة حضورها هي نسف للحدود ولما يمكن أن يحدّ من الخيالِ أو يُسوّرَ المحبةََ ويقيسَها وفقَ مساطر "مُبغضي البشر"؟ من برابرة يترصدوننا في كل مكان وكأنهم يسعون بذلك إلى إثبات الجانب الآخر الذي ننتمي إليه، أقصد ملكوت المحبة والتواصل والانفتاح على الآخر مهما كانتْ أصوله وفروعه طالما أنه يلهجُ بمحبة الحياة والناس. أبانا المضيء شعرا وشكلا، وَصَلْتَنِي بسرعة البرق والضوء في العام 1994 عبر المركز الحدودي المدعو "السفر داخل المنافي البعيدة" فاكتشفت هذا "اليوسفَ" وهو في محنته وجبّهِ، و"السعيدَ" في خِلْوَتِهِ وأمله اللامحدود بالخلاص في نهاية المطاف، فشربنا معا كأس المحبة وانطلقنا في اتجاهين: بحثيّ، حيث سمحتُ لنفسي بنقلك (صحبةَ زمرة من الشعراء) من فضاء حريتك الوسيع إلى حيزِ الورق فأخضعتُ بعضَ محطاتك الحياتية وكلماتك لمبضع أكاديمي لا يرحم كثيرا فمررتَ عبرَ صفحات البحث بسلاسة ملبيا تداعيات المنفى ومديح وهجاء الطفولة وثيمة تعدد
أصدقاءُ الصيد فـي وليمة الأب يوسف
نشر في: 16 مارس, 2012: 06:57 م