شاكر لعيبيقرأتُ مقابلةً مع الشاعر محمد حسين آل ياسين، بسبب العنوان الذي وُضع لها "أدب الداخل كان يمطر جمراً وحيوية ويضج صدقاً وانفعالاً". بعد أن أنهيتُ قراءتها لم أعرف هل أصخب ضاحكاً أم أسمح لعبرات المنفلوطي بالسيلان أخاديد على وجنتيّ؟
ناهيك عن التبسيط في معالجة إشكالية (الداخل) و(الخارج) التي صار الجميع اليوم يعترف بها رغم أنه، من باب الحيطة، يقول بوحدة الشعر العراقي، فإن بعض الأفكار التي يوردها آل ياسين تستحق قليلاً من التأمل المرح لكي لا تذهب مذهب البداهة الثقافية السمجة.لنبدأ بأفكاره من العيار الثقيل: "إن قلة من الأدباء في خارج العراق، كانوا قد نضجت تجاربهم وعرفت أسماؤهم [...] الجواهري والبياتي ومصطفى جمال الدين وبلند الحيدري وسعدي يوسف ومظفر النواب وفاضل العزاوي وفوزي كريم، ومع ذلك فهم لم يسلموا مما لابد منه في بلدان الثلج وتناثر الأوراق الصفراء وأعني به برودة التجارب وانطفاء الوهج الإبداعي وسحر اللغة وسائر سمات الإبداع التي ميزت نصوصهم قبل الخروج". لا يَرِدُ التوصيف بالبرد من باب المجاز إنما وقع الإلحاح عليه في المقابلة حتى يُفهم بحرفيته. برد المناطق الشمالية والقطبية إذنْ هو الذي أصاب شعرهم بانطفاء إبداعي، وهذا لم يكن واقعا في جغرافيا العراق الساخنة. ألا ترون معي، أيها القراء الكرام، برودة تجارب الشعراء السويديين وعلى رأسهم توماس ترانسترومر، وتجمُّع الصقيع في ثنايا مسرحيات النرويجي هنريك أبسن، وذبول الأوراق المتناثرة في لقطات أفلام السويدي أنغمار برغمان وشحوب ألوان الرسام النرويجي أدوارد مونخ، وغيرهم من شعراء وفناني القطب الشمالي. أما شعراء ألمانيا وروسيا وبريطانيا الواقعة كلها في الأقاصي الباردة، فقد صار واضحا للقاصي والداني أنها تفتقر إلى "الدفق الحار" وذلك "لابتعادها عن الموقد" و"تسرُّب البرودة إليها" حسب تعبيراتٍ له في سياق آخر. هذه مزحة حقيقية لا تليق بأستاذ مُرَبٍ.قبل ذلك يقول الأستاذ آل ياسين: " الأكثر الأغلب مما كتب خارج العراق كتب بأقلام شابة لا تتوفر على مواهب مجربة ولا خبرة مشهود لها بالنضج، وهؤلاء أصلاً خرجوا من العراق بدوافع اقتصادية معيشية بحثاً عن العمل، فكان الأدب لديهم ثانوياً، فلم تتهيأ لهم الفرصة لتطوير الأدوات وإغناء التجارب....". وهنا أيضا يعرف الجميع بأن الأكثر الأغلب من شعراء جيلي، على الأقل، قد خرج من العراق، بثيابٍ رثة، من أجل لقمة العيش التي لم تكن متيسرة في عراق السبعينيات النفطي، وكان يلهث وراء العمل في سويسرا ولندن والنمسا وأستراليا، فصار بعد حين من كبار التجار والمضاربين، رزق الله الجميع مثلما رزقه. لنذهب بعيدا ونُعْلِم من لا يَعْلم بعد بأن السياحة والمغامرات العاطفية كانت الهاجس الأول لهذه الأقلام ذات الشباب الأبدي، وأنها أمضت أحلى سنوات عمرها- هي اليوم في الخمسين بل الستين - باللهو على شواطئ الريفيرا. وأنها حسب ما تدل عليه القراءات الواسعة لنصوصها الشعرية التي قام بها آل ياسين وغيره من النقاد لا تتوفر على الموهبة والخبرة والنضج.هذا الموقف السلبي المسبق الذي تنقصه التدقيقات المنهجية، والذي يفتقد روح المحبة اللائقة بالشعر وبالشعراء، هذا الموقف المطروح بتلاوين وأشكال متنوعة، يُقال في أوساط ثقافية عراقية كثيرة علناً. يكفي برهاناً على ذلك أن مُحاوِر آل ياسين أو صحيفته قد اختارت من بين جميع الموضوعات التي تناوَلها، موضوع أدب الداخل- الخارج مانشيتاً عريضاً لها، كأنها تنفي عن أدب الخارج "الجمر" و"الحيوية" و"الصدق" و"الانفعال". هذه مزحة أخرى لا تليق بمُحاوِر (بكسر الواو)، ومُحاوَر (بفتح الواو) سيكون ردّه على كلمتنا أنه كان في نطاق الاستعارة، وهو ليس حاله البتة.لا يُناقَش هذا الملف الوعر بمفردات إطلاقية ساذجة، ولا يُقال بمانشيتات مشحونة بمغالطة العينة المضحكة – المبكية الحالية.
تلويحة المدى: برودة شعر (الخارج) وسخونة أدب (الداخل)
نشر في: 16 مارس, 2012: 06:58 م