د. فارس كمال نظميألم يكن تأريخنا السياسي المعاصر في العراق في وجه من وجوهه، تأريخاً سيكوباثياً لاستئساد الأقوياء على الضحايا، والموهومين على الأحرار، والخائفين على الواثقين، والمالكين على الفاقدين؟ لكن هذا الاستئساد القطيعي على الطريدة المستسلمة، يتخذ اليوم منحى جديداً عبر طقوس الرجم المتصاعدة ضد فئة شبابية صغيرة تحمل -مثل راجميها- الهويةَ العراقية،
باتت تُعرف بـ"الإيمو". لا تتوافر أدلة وشواهد مادية موثقة عن حجم الأذى الجسدي الذي تعرض له هؤلاء الشبان، إذ يكتنف الأمرَ غموضُ معلوماتي والتباس إعلامي وتعتيم رسمي وتهويل مجتمعي. إلا أن كل ذلك لا يحجب حقيقةَ أن جوهر الأمر بات لا يتعلق بشبان الأيمو أنفسهم، بل بالفورة الاستئسادية التي طالت أطرافاً عدة في المجتمع والدولة، انبرت لتقرع طبول "الفضيلة" تحذيراً من "خطر" محدق بـ"نقاء" النسيج الاجتماعي، بل وتحريضاً على الاقتصاص من هؤلاء "المارقين" عن جادة الصواب.rnأتوجه بتحليلي إلى هذه الظاهرة القطيعية "التأديبية" حصراً، تمحيصاً وتفسيراً واستشرافاً. أما الإيمو أنفسهم فلا يمثلون إلا الخلفية الفنية الشكلية للظاهرة، إذ لا يعدون كونهم عينة الدم التي أتاحت لنا تحليل الحالة الصحية للجسد كله.أتابعُ طقوسَ الرجم البدائية هذه بمزيج من الحزن الروحي والسعادة العقلية: الحزن الروحي من جراء الهستريا الجمعية العنفية "الأخلاقوية" ضد بضعة شبان وفتيات أرادوا ممارسة الاكتئاب الوطني علنياً وسلمياً وجمالياً؛ والسعادة بل النشوة العقلية لأن هؤلاء الشبيبة أفلحوا بطريقة عفوية وجريئة في استفزاز كل التراث اللاعقلاني للحضارتين الذكوروية والإسلاموية المتلاقحتين بغنج شديد في الغابة العراقية المكتظة بتأويلات مفتوحة فلسفياً وواقعياً على مختلف احتمالات التطور أو النكوص الاجتماعي-السياسي القادم.إن انخراط فئات مجتمعية ودوائر رسمية ووسائل إعلامية في الصولة "الشرفية" المستمرة ضد وهم "الإيمو"، إنما يعيدنا مباشرة إلى إشكالية الجدال الفكري الذي لم ينقطع يوماً حول أولوية العدالة أم الحرية؟ ألا يجدر فعلاً أن نختزل كل معضلات الوضع البشري المزمنة إلى مشكلة الحرية: سعياً لها أو خوفاً منها؟ وهل يمكن للتقدم الملموس في ميدان محاربة الحرمان وإرساء العدل الاجتماعي في أي بلد أن يتحقق فعلاً على نحو مؤسساتي راسخ نسبياً، دونما تحقيقٍ مسبق لدرجة معقولة من الوعي المجتمعي المتين بضرورة الحرية وقدسيتها؟!rnما معنى الإيمو؟يجب التمييز أولاًَ بين ظاهرة "الإيمو" في منشئها الأول في مجتمعات غربية متقدمة في أوروبا وأمريكا خلال العقد الأخير من القرن الماضي وما بعده، وبين حالات الإيمو المتفرقة التي ما برحت تظهر في مجتمعات نامية، ومنها العراق ومصر والسعودية والأردن، بوصفها تماهياً شكلياً محدوداً بالظاهرة الأم، ضمن حدود الموضة والأزياء والعيش في العوالم الافتراضية لشبكات الاتصال الاجتماعي.اشتقت مفردة "الإيمو" Emo في الغرب من مصطلح "العاطفي" Emotional للدلالة على ظاهرة نفسية قوامها الحساسية الوجدانية الشديدة تجاه فكرة الألم، انتشرت بين المراهقين من الجنسين في أعمار (12-17) سنة ممن يتبعون نظاماً معيناً في السلوك والتفكير والشعور والأزياء والموسيقى وتسريحة الشعر ونمط الحياة. فإلى جانب ارتداء السراويل الضيقة أو الفضفاضة، والقمصان القاتمة والإكسسوارات الغرائبية كالجماجم، يحرصون على أن تكون عيونهم كحيلةً بلون قاتم، وشعرهم فاحماً منسدلاً يغطي عيناً واحدة أو نصف الوجه بدعوى إنهم لا يرون إلا النصف الفارغ من الكأس، أو ليخفوا مشاعرهم ودموعهم. أما موسيقاهم فتنتمي إلى الروك والميتال، وتتضمن قصائد عميقة معبّرة عن مواقف بالغة الحزن مستمدة من وقائع الحياة. إلا أن الأهم من كل ذلك هو فلسفتهم الحياتية، إذ يتسمون بشخصياتهم السوداوية التشاؤمية، وبالصمت والخجل والحزن الدائم مع الدموع، وبافتقارهم التام للشعور بالقيمة الذاتية والثقة بالنفس، ويرون أنفسهم منبوذين اجتماعياً، وهم انسحابيون جداً ولا تلتقي عيونهم أبداً بعيون الآخرين، لكنهم في الوقت ذاته يرتبطون ببعضهم بعلاقات عميقة أساسها التفهم والإلفة. ومع أنهم يجدون علاقاتهم ببقية الناس غير ضرورية وغير ودية، إلا أنهم يحترمون الآخرين مهما كانوا. وقد يدفع الأسى والاكتئاب المزمنانِ بعضهم إلى قطع أرساغهم بسبب ميولهم الانتحارية، ما يجعلهم عرضةً للانعزال والاضطرابات النفسية. وقد يندفع بعضهم إلى إدمان العقاقير أو المخدرات أو ممارسة الشذوذ الجنسي سعياً للانفصال النفسي التام عن المعايير التقليدية للمجتمع. أما ما يُقال عن أنهم مصاصو دماء أو عبدة شيطان، فلا صحة له، لأن الإيمو ليس ديانة محددة بل أسلوب حياة يمثل ثقافة فرعية Subculture فحسب، وهو عابر للطبقات وللتمايزات الاقتصادية.rnالإيمو في العراقبالعودة إلى المجتمع العراقي، فبحسب الملاحظات العيانية والمؤشرات الميدانية والإفادات الحية من الشباب أنفسهم، فإن حالات الإيمو المرصودة لا يمكن عدّها ظاهرةً مستقرة المعالم، إذ لا تعدو كونها تقليعات سلوكية سلمية ظهرت لدى شابات وشبان محدودي ا
"وصمة" الإيمـو.. والخوف العراقي المزمن من الحرية!
نشر في: 18 مارس, 2012: 07:46 م