 احمد المهنافي يوم ما عندما تهدأ الأوضاع في العراق، وينتهي الصراع على السلطة، وتترسخ الدولة، ستجد الأجيال الجديدة من الباحثين والمفكرين والمبدعين نفسها أمام ثروة، وكنز، للتأريخ والتحليل والإلهام. سيجد الأحفاد أن الأسلاف كانوا كرماء للغاية في انتاج المآسي، والآلام، والعبث الخيالي بالناس والأشياء.
السينما، المسرح، الرواية، القصة القصيرة، التشكيل، الشعر، الموسيقى، العلوم الإجتماعية، الفكر، ستتوقف عن البطالة، أو البطالة المقنعة، وستجد امامها الكثير مما يستدعي العمل والإبداع والتفكير فيه من تاريخ البلد. ستأخذ الأجيال حياة الأسلاف وأعمالها على محمل الجد. وستنظر اليها بالإحترام الواجب للنفس. وستمنحها الحب الملائم للنفس.وعندها يمكن لما يمكن تسميته " الذات العراقية" أن توجد، وأن تكون موحدة نوعا من الوحدة، سليمة من شقوق وجروح التمزقات الثانوية، وقوية في النظر الى دواخلها والتحديق في اعماقها.لن تخجل من إمعان النظر في الغلظة التي كانت شديدة، ولا من حكومات الأكاذيب التي كانت شنيعة، ولا من الهاوية التي كانت عميقة، بل ستجدها هي مربط الفرس، وهي منجم الألم.وهو منجم لا يقبل التوقف عن الإنتاج، ويبقى مهددا بتكرار نماذجه المأساوية، من دون التأريخ له، ومن دون دراسته، ودون استلهامه إبداعيا. ان الماضي لا يصبح ماضيا دون الحوار معه، دون فهمه فهما موضوعيا وعقلانيا. دون كل ذلك سيبقى حاضرا، وسيبقى مستقبلا.العراق، مثل بقية الدول العربية، انتقل نقلة "ثورية" سطحية، دون مقدمات كافية، من الحكم العثماني الى دولة حديثة، من القرون الوسطى الى العصر الحديث. سقطت الدولة العثمانية وجاء الاستعمار الغربي فصنع معظم الدول العربية الحديثة. ولكن أحجار العصر العثماني التي شيدت منها هذه الدول لم تنصهر في الكيانات الجديدة، ولا فنيت في الأشكال الجديدة من النظم والحكومات.انها على العكس من ذلك بقيت موجودة تحت احدى طبقات العقلية، ثم خرجت الى سطح العقلية مع أول فرصة سانحة. وكان التحرر من الاستعمار هو أهم فرصة سنحت أمام العقلية العثمانية للخروج والظهور والتحكم.ولقد اخذ فكر التحرر من الإستعمار أشكالا سياسية حديثة عديدة، من وطنية وشيوعية وقومية الى اسلام سياسي. وربما أدى هذا الفكر دوره في التحرر من الاستعمار. ولكن ماذا فعل للإعمار، للرفاه، وللتحرر الإنساني؟لاشيء. العكس من ذلك هو ما حدث: بؤس واستبداد. فذلك التحرر كان استعادة للعقلية العصملية. الدولة الحديثة بدت مثل لباس جديد لجسم قديم. وما ان تحرر الجسم القديم من أغلال "الثوب الاستعماري" حتى عاد الى ماضيه، يحكم بهواه، ويدير بنزواته. ذلك أننا لم نؤرخ هذا الماضي، لم ندرسه، ولم نفهمه فهما كافيا لموته وإرساله الى المتحف.قال سلامة موسى:" ان أسوأ ما أخشاه ان ننتصر على المستعمرين ونطردهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا". هذا الأسوأ هو ما حدث. وهذا الأسوأ هو منجم الفكر، وكنز الإسطورة، ولكن فقط عند الإستقرار، عندما تستكمل الدول شروط بنائها، وعندما تتوفر اسباب "عودة الوعي"، عودة جماعية، لا عودة محدودة بأفراد قلائل مثل توفيق الحكيم، صاحب المقالة التي حملت عنوان"عودة الوعي"، وكانت أحدى درر التفكير المتنور في كنز الألم.مصائب الأسلاف إذن فوائد للأحفاد. والإقتصاد في المصائب مازال بعيدا وأبعد منه استثمارها!