طالب عبد العزيزمن نافل القول أن أدبيات أغلب الجماعات الإسلامية في الوطن العربي كله تتحدث عن الموسيقى والغناء بوصفها من المحرمات،ويتطير الخطباء والوعاظ من صوت كمان أو ضربة وتر،قاعدتهم في ذلك تستند إلى نصوص وأحاديث لا يجرؤ أحد على تفكيكها اليوم،لا لأنها تدخل ضمن ما يمس ويضر جوهر الدين،فهناك العشرات من النصوص التي تمس وتضر،لم يتطرق لها خطيب
أو واعظ في مكان ما،ظلت معطلة في متون الكتب طوال الزمن العربي الإسلامي،لكنهم ما فتئوا في أحاديثهم وخطبهم يتحدثون عن الموسيقى والغناء بوصفها المخرب الأول والمنكر الأول والخطر الذي يتهدد الدين ويحطم جوهره،فيما يعبث الآلاف من السياسيين والمتسلطين باسم الدين بمقدرات شعوب بأكملها،دونما موقف واضح من أحد.حين أسقطت القوات الأمريكية نظام صدام حسين عام 2003 وتنعم العراقيون بنعمة الحرية،خرج البعض بنغمة الحديث الذي يقول: (الظالم سيفي أنتقم به وأنتقم منه)وحين طفحت الأموال الحلال والحرام بجيوب العشرات والمئات منهم كتبوا على واجهات منازلهم الآية الكريمة :" قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةًَ" [الأعراف:32]..ولما كانت النساء بغية كثيرين منهم تزوجوا عاملين بمنطوق الآية: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء ، مثنى وثلاث ورُباع ،"ولم يتحدث أحد منهم عن القسط في اليتامى أو العدل بين النساء ،بل لم يكمل أحدهم الآية التي يقول سبحانه في خاتمتها : "ولن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم .." وهناك المئات من النصوص والأحكام معطلة ،ولا يعمل بها أحد، فيما يبقى الحديث عن الغناء والموسيقى علة هؤلاء. ومع أن 90% من محطات الراديو العربية تبث عددا من أغاني فيروز، صباح كل يوم، في تقليد إعلامي،دأبت عليه وسائل الإعلام المسموعة،حتى أصبح عرفا اجتماعيا انسجم مع الذائقة العامة لعقود من الزمن ،أو لنقل هو تفكير غاية في الدقة من أجل منح الناس والمستمعين فسحة مضافة لتأمل الحياة وألق الوجود من خلال الصوت الملائكي الجميل،الذي يأتينا مع خيوط الشمس الأولى،مع الحليب والقهوة والخبز الحار ،مع زقزقة العصافير وخروج الأطفال إلى مدارسهم ،مع هذا كله يصر مسؤول رفيع في مبنى محافظة البصرة على عدم بث أغاني فيروز صباح كل يوم من محطة (راديو البصرة) التي تموّلها وتشرف عليها الحكومة المحلية ،ومن مبالغ البترودولار المخصصة لمشاريع عامة تخدم سكان المدينة. الغريب في القضية أن المحافظ الدكتور خلف عبد الصمد نفسه دعا قبل نحو من 3 أشهر نخبة من مثقفي المدينة إلى التداول بشأن تفعيل الثقافة في الحراك الاجتماعي اليومي بما ينسجم مع توجهات دولة رئيس الوزراء،في جعل الثقافة زادا يوميا للمواطن ،لكن أحدا لم يفهم بعد الكيفية التي تريد بها الحكومة تفعيل الثقافة هذه،أو أي ثقافة تقصدها على الرغم من توقعاتنا بالخير خلال حضوره ورعايته مهرجان المسرح الأخير،لكن بادرة حجب صوت فيروز عن أسماع البصريين جاءت مخيبة للآمال في وقت تتعالى فيه مئات الأصوات النشاز من مكبرات الصوت في أماكن مختلفة،في الشوارع والأسواق العامة وداخل أحيائنا المزدحمة،يعني أنا شخصيا لا أفهم كيف تكون الدعوة للحياة من خلال الثقافة بعيدا عن صوت السيدة فيروز فيما تسمح الأجهزة الرقابية لشحاذ قذر يتخذ من شارع عبد الله بن علي مقرا دائما ينعب فيه بصوت هو الأبشع مثيرا اشمئزاز المارة لا عطفهم. ولأني مثل غالبية محبي الحياة في المدينة،وفي العالم،المفتونين بكل ما هو ملائكي ،جميل وحضاري لا أتصور الحياة خارج الموسيقى،خارج صوت فيروز التي لا تقارن بواحدة أو بواحد من مطربي العربية، لأنها لم تكن مطربة حسب، إنما هي ذائقة عربية غاية في الرقي،وهي أكبر من مغنية ،أكبر من وسيلة لتزجية مؤقتة،ولا يُعد سماعُ صوتها استثارة غريزية مثلا،أو شعورا بعاطفة رخيصة،ولا يمكننا تصنيفها ضمن جوقة الطرب العربي النفيس والرخيص معا،هي ماؤنا وهواؤنا وسماؤنا التي نتوازن بها مع ما يتكرم به علينا الحكام من ماء وهواء وسماء،هي تعويذتنا في الزمن الخسيس هذا،سلسلة الذهب الثمينة التي تزيّن أعناقنا،قبل أن يقطعها هؤلاء،هي ما ينفع الناس وهم الزبد الذي يذهب جفاءً.
فيروز ممنوعة في راديو البصرة!
نشر في: 21 مارس, 2012: 07:03 م