لندن/ عدنان حسين أحمد تتسم التجربة الفنية للمخرجة رانية محمد توفيق، المقيمة في الدنمارك حالياً، بالتنوّع والثراء من جهة، والمغايرة والاختلاف من جهة أخرى، ذلك لأن مرجعيتها الإخراجية دنماركية قلباً وقالباً. وعلى الرغم من أنها عاشت نحو اثني عشر عاماً في سوريا وتونس إلا أن المناخ الثقافي الدنماركي هو الذي طبع حياتها اليومية والاجتماعية.
كما أن دراستها للإخراج السينمائي في مرحلتي البكالوريوس والماجستير قد عززت لديها هذا النزوع الثقافي الغربي على وجه العموم. لابد من التنويه إلى أن الجيل الثاني من المهاجرين أو المُقتلعين من جذورهم بطريقة أو بأخرى يحاولون العمل دائماً في المنطقة الوسطى بين البلد الطارد للأبناء وبين البلد المُستقبِل لهم والذي يمنحهم غالباً حقوقاً وامتيازات لم يحلموا بها في بلدانهم الأصلية، فلا غرابة أن تركّز رانية محمد توفيق على موضوعات عراقية أو عربية كما هو الحال في فيلميها السابقين (نوال) و (خالد) أو حتى في فيلمها الثالث (نسمة هواء) الذي نحن بصدد تحليله وقراءته قراءة نقدية متأنية. لابد من الإشارة إلى أن رانية محمد قد حصلت على شهادة الماجستير من أكاديمية (الفيلم والإعلام) في كوبنهاغن، فلا غرابة أن تكون تقنياتها غربية بالكامل، بل أن رؤيتها الإخراجية هي رؤية أوروبية صرف سواء في التعاطي مع موضوعات حرة أو اختيار ثيمات قد تبدو جريئة بالنسبة للمتلقي العربي، لكنها طبيعية ومألوفة بالنسبة للمُشاهِد الغربي. لا تنطوي أفلام رانية محمد على أي شكل من أشكال الترهل السينمائي أو الثرثرة البصرية، ذلك لأن كل شيء فيها محسوب بدقة متناهية. ففي فيلم (نسمة هواء) ثمة فكرة واحدة لا غير هي التي شغلت بال المخرجة وعملت عليها على مدار الفيلم الذي يبلغ طوله (25) دقيقة. وجوهر الفكرة أن الفتاة الشابة (سحر) التي تبدو منهمكة في مظهرها الخارجي من جهة، ومنغمسة في عالمها الداخلي من جهة أخرى، تريد أن تتعلم الرقص، وأن تشارك زميلاتها الاثنتي عشرة فتاة في الرقص، فمن غير المعقول أنهن جميعاً يرقصن ويغنين ويفرحن، فيما تظل هي منعزلة وحدها، ومنطوية على عالمها الخاص. فسحر حينما ترقص تشعر بالسعادة حقاً، وهذه المشاعر الداخلية العميقة كانت بداية للفيلم، كما أن الشعور بالحرية كان نهاية له. أما التفاصيل التي تؤثث متن الفلم فقد انطوت على الكثير من المفارقات التي تضع هذا الفيلم في سياقه المبهج الذي رسمته هيكليته المخرجة المبدعة رانية محمد. يقوم بعض المواقف في الفيلم على المفارقة اللغوية، فحينما يتحدثن عن كلمة (الفيس بوك) التي صادفتهن في لعبة (من غير كلام)، أي الوصول إلى معنى الكلمة بواسطة التعبير الإيمائي (البانتومايمي) قالت شقيقة الفتاة المشاركة في اللعبة: أتقرأين القرآن؟ أتغسلين وجهكِ؟ أترتدينَ الحجاب؟ إذ تصورّت أنها تعني (وجه وكتاب)، وأخيراً وبعد جهد جهيد تذكرت كلمة (فيس بوك) الإنكليزية التي يعرفها معظم الناس الذين يتعاطون مع الإنترنيت في الأقل. تشعر سحر بأن الهواء نقي على سطح المنزل، وهو كذلك في معظم الدول الأوروبية تقريباً، لكن الأكثر أهمية أن هذه النقاوة في الهواء العليل يُشعِرها بالحرية والاسترخاء. أما جدران الغرفة أو المنزل على سعته فإنه يسبب لها الكدر والضيق والاختناق. فتيات الجيل الأول يتحدثن الدنماركية بطلاقة، ويتقنَّ حتماً عدداً آخر من اللغات الأوروبية الحيّة. كما أنهنّ متفحتات، يدخنّ النارجيلة على غرار الفتيات الشاميات واللبنانيات، لأنهن يحملن جزءاً من ذلك الموروث العربي المتفتح الذي قد لا تجده في دول عربية أخرى. لم تخرج النكات التي يتبادلنها عن الإطار اللغوي أيضاً مثل نكتة (أبو عبد) التي شاعت على الإنترنيت. إذ خاض هذا الرجل امتحان اللغة الإنكليزية وهو لا يتقن منها سوى عبارة (تعال هنا)، وحينما سأله الأستاذ: كيف تقول لشخص تعال هنا بالإنكليزية؟ فأجاب: أقول له: (كوم هير). وإذا كان هناك، بعيداً عنك قليلاً، فماذا تقول تقول: أذهَبْ إلى هناك وأقول له (كوم هير)! تحاول سحر أن تتعلم معظم الرقصات العربية التي تبعث على الفرح والمسرّة مثل الدبكة العربية، والرقصات الشامية التي يشترك فيها النساء والرجال، خصوصاً وأنها تتصف بالخفة والحيوية والحركات السريعة المبهجة. ثمة فتيات كثيرات في هذا الفيلم نذكر منهن ديانا، ميسون، فاطمة، عصمت، آية، كارولين، أمينة وأخريات يأتين على الموعد، لكن هناك اثنتين منهن يتأخرن دائماً عن مثل هذه الحفلات البيتية الجميلة وهنّ دعاء وسيرين اللتين يتمترسن وراء أعذارهنّ القوية أو الواهية على حد سواء. تنهمك الفتيات جميعاً بالرقص، فيما تظل سحر مترددة، خائفة من بعض الأخطاء التي قد ترتكبها في هذه الرقصة أو تلك، لكن ديانا تتبرع بتعلميها الدبكة، مثلما تعلمها الأخريات أنواعاً أخرى من الرقصات العربية الشائعة والمألوفة في أوساط الجاليات العربية. تتقدم سحر رويداً رويداً في أدائها لعدد من الرقصات الشعبية الجميلة التي تمنحها إحساساً عميقاً وراسخاً بالحرية، فهي حينما ترقص لا تفكر بشيء، وإنما تشعر بالتحليق والبهجة والاسترخاء. عالجت المخرجة رانية محمد فكرة النص بطريقة ذكية، كما استطاعت أن تدير لنا هذه المجموعة الكبيرة من الفتيات اللواتي بلغ عددهن ثلاث عشرة شخصية، كما نجحت في التعاطي مع ا
فيلم نسمة هواء..البهجة والاسترخاء والإحساس بالحرية
نشر في: 21 مارس, 2012: 07:21 م