غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر من نصف عام ،واستغرقت منه جهدا، ووقتا ليؤمن متطلباتها
غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أنا
قرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر من نصف عام ،واستغرقت منه جهدا، ووقتا ليؤمن متطلباتها بدءا من استحصال الفيزا ،وانتهاءً بحجز التذكرة.أما أنا فقررت الاعتذار على الرغم من إلحاح الجهة المنظمة ، ذلك إنني تفرغت تماما لمشروع الدراسة، والحصول على الدكتوراه . سافر علي بهدوء تصحبه أعماله القليلة التي انتخبها من بين ما التقطه من صور ليطلع العالم عبرها على شوارع بغداد وأزقتها في واحدة من رحلات أحلامه فيضيف لذاكرة الناس صورة عن بلد عجز السياسيون عن تجميلها !ولم ينس أن يأخذ معه مجموعة من فحوصات، وعينات مختبرية تحمل في نواتها مرضاً لم نقدّر حجم لؤمه أصابه في الفترة الأخيرة.كان الاتصال بيننا ، والصديق المشترك فتحي أبو الطبول رئيس اتحاد مصوري أوروبا، شبه يومي حيث أتعرف على أجواء المهرجان وأهميته، فكان للمعرض الذي أقامه في ألمانيا أثر كبير كمشاركة عراقية حين احتفى به الأصدقاء ،وتحدث عن تجربة بلده بلغته الإنسانية الحميمة ، دون حواجز أو مصدّات. باشر بعدها مراجعات طبية مملة، مستفيداً من فرصة وجوده هناك ليقف على طبيعة المرض الذي يحمله، وبدأت سلسلة من الفحوصات والتحاليل ليدخل في دوامة الألم الحقيقي بجسده المنهك المسالم في مواجهة خصم كان أكثر منه شراسة وقوة.بعد فترة اتصل بي الصديق فتحي ليخبرني، أن علي توقف عن العلاج، وهو ممتنع كليا عن الاستجابة له.اتصلت به، واقترحت عليه أن نضع (انا وهو) أنفسنا في اختبار مصيري، أما الحياة ،وتجاوز المرض، أو مواجهة الموت الحتمي بالنسبة له، و النجاح والحصول على الدكتوراه ،أو ترقين القيد، والفشل بالنسبة لي.وافقني تماما على ما ذهبت إليه، ونفذنا اتفاقنا، كنت أتصل به مساء كل يوم، أتحدث معه، أستنطقه لأسمع صوته، أو حتى إيماءة منه..أخبره عن عملي وتقدمي بالدراسة يوما بيوم. لم يكن من السهل التحدث إليه، فهو يشعر بالألم ،وعدم القدرة على التواصل .كنت أحاول حمله على الأمل ،وأعده بالغد، والحياة ،والإنجاز، وهو يجاريني مرة ،ويَسرني بآلامه التي لم يتحملها مرة أخرى .واستمر الحال هكذا ..يوماً بعد يوم بدأ يتحسن ،ويستجيب للعلاج ،وتحرك بعدها خارج حدود المشفى .. وبدأ التجوال بصحة كاملة في شوارع ألمانيا ملتقطا لبناياتها وواجهات محالها مئات الصور، أملاً بتنفيذ وعدنا له بإقامة معرض كنا سنسميه (يوم جديد) في بيت المدى في شارعه الأثير (المتنبي) .ولكن في ظروف لم تكن مناسبة ولم أتبين أسبابها حتى هذه اللحظة ،وبعد إلحاح وإصرار منه هرب من المستشفى دون أي مبرر مقنع ،مجرداً حتى من حقيبة سفره، عاد إلى بغداد تاركا العلاج في مراحله الأخيرة ليستسلم إلى المرض .زرته في بيته بعد عودته إلى بغداد، ولكني لم أجد علياً بل وجدت شيخا كبيراً لم أتبين سنّه حتى ..كان يتكلم بصوت عال ومتحشرج، يحمل في يده مسبحة ظل يدحرج حباتها طيلة الوقت بحركة آلية لا تشبه حركة أصابع وثقت لحظات فرحنا ونجاحاتنا ،وحتى آلامنا .. كانت اليد تتحرك بيأس واضح وتعبّر عما حاول أن يخفيه حتى عن والدته.خرجت وأنا حزينة أنتظر رحمة ،أو معجزة من الله لإعادته إلينا، وأملت خيراً عندما أخبرتني شقيقته أنهم سيسافرون إلى بيروت لإكمال العلاج بعد أن صارحتهم بطبيعة مرضه الذي أخفاه حتى عن زوجته الشابة الصغيرة ليس لشيء سوى خوفه على عائلته من التفكير بحزن أو مرض. انطوت الأيام يوماً إثر آخر ،وانطوت معها أيضاً صفحات أخرى من أطروحتي، وزادت كذلك الجرعات التي أذابت جسد صديقنا علي ...أستمر الاتصال بيننا حتى حانت اللحظة حينما تحدد موعد مناقشتي ودفاعي عن الأطروحة التي أكملتها في الوقت المحدد..اتصلت به لأطمئنه ،وأطمئنّ عليه واتفقنا على اللقاء بعد أن أنهي مناقشتي ،وينهي هو جرعته الأخيرة ،ويعود إلى العراق.أكملت الدفاع عن الأطروحة ،وحصلت على الدكتوراه، بعد أشهر كانت هي الأصعب بالنسبة لي، وخرجت لأحتفل مع أصدقائي ،ولأوقد شمعة تضيء زاوية جديدة من زوايا حياتي ،وفي الساعة التي نطق بها الحكم بحصولي على الشهادة، وأثناء لحظة خروجي من باب الجامعة اتصل بي صديقنا عماد جاسم ليهنئني ،ويخبرني بصوت متردد وحزين أن شمعة أخرى في مكان آخر من هذا العالم قد انطفأت، وأخفت بظلمتها مساحة نقية، اسمها علي طالب.