احمد المهنالحكم الأكاذيب تاريخ طويل في العالم، وتاريخ أطول في العالم العربي. وهناك أمم تنساق اليه، حتى يغدو هذا النوع من الحكم شعبيا أو جماهيريا. وكانت روسيا واحدة من أهم هذه الأمم. وروسيا بلاد عظيمة، ولكنها في جانب من تاريخها مثلنا أمة منشقة.
ولا تكاد توجد أمة أعطت الأدب اعمالا عظيمة في القرن التاسع عشر مثلما فعلت روسيا. وفي العصر نفسه لا تكاد توجد شريحة عاشت صراعا فكريا محتدما وثريا مثلما كانت عليه شريحة المثقفين في روسيا.وهذه الأمة ليست أوروبية كاملة ولا آسيوية خالصة. وكان لمزيجها الجغرافي مقابله الفكري أو الروحي. وقد كلفها ذلك كما كلف أوروبا والعالم الشيء الكثير. ومازال يفعل. والموقف الروسي مما يجري في سوريا مثال. فروسيا اليوم تضخ الكثير من الدم الذي يحيا به حكم الأكاذيب في سوريا.ومن دونها أيضا ما كانت البلاد العربية لتصبح أيام الحرب الباردة في قلب ذلك الصراع. وكانت البلاد العربية يومذاك مقسمة، في ميزان الفكر اليساري السائد، بين دول تقدمية وأخرى رجعية. الأولى كانت حصة روسيا، أو ما كانت تعرف به يومئذ: الاتحاد السوفييتي. وليست مصادفة ان حكومات الأكاذيب العربية كانت هي النصيب الروسي من قسمة النفوذ بين الشرق والغرب، أو بين المعسكر الإشراكي والمعسكر الراسمالي بمصطلحات تلك المرحلة.وفي القرن التاسع عشر رأى كثيرون من عظماء روسيا الهاوية التي تندفع اليها بلادهم. ومنهم دوستويفسكي. ففي رواية ( الشياطين) تدعو احدى الشخصيات اليمينية شخصية يسارية الى تضافر الاتجاهين في حكم روسيا، مثلما هي الحال في بريطانيا. روسيا بقدم واحدة عرجاء، منشقة، تسير نحو الهاوية. يقول الأول. الثاني يرفض. ومن هذا الرفض تشكل الحكم الأحادي في روسيا الذي أدخل بلده والعالم في عذابات الحرب الباردة.والحكم الأحادي لا يقوم ولا يستمر الا بطريقة واحدة، بالأكاذيب وبالتضليل. فالتعدد والتنوع سمة كل أمة، بل وفي العمق سمة اي فرد، فكيف يمكن دون الكذب ودون التضليل حكم أي أمة بفكرة سياسية واحدة؟ بحزب وحيد أو قائد أوحد؟ولأن هذا أمر مستحيل، ولأن روسيا أمة عظيمة، فقد استمرت في انتاج أدباء ومفكرين كبار، يقاومون الاستبداد، ويرفضون حكم الأكاذيب، رغم جبروت " الإتحاد السوفييتي". والعشرات من هؤلاء قضوا انتحارا. وبعضهم عاش ملحمة عذاب وبطولة فريدة مثل بوريس باسترناك. وملحمة باسترتاك خالدة حقا، ليس فقط لأن رجلها اديب عملاق، بل ايضا لأنها قصة حرب "دولة عظمى" على فرد اعزل.في تلك الحرب استخدمت الدولة كل أسلحة البذاءة، كلها من دون استثناء، ضد الرجل. وكان قريبا من المصير الأسوأ لولا أن ستالين اهتدى بإعجوبة الى العفو عنه قائلا " اتركوا ساكن السحاب هذا". وتحت الضغط الهائل اضطر الرجل، وهو المحدود الموارد، الى رفض جائزة نوبل. وكانت روايته (الدكتور زيفاكو) التي فضحت حكم الأكاذيب قد جننت "الإتحاد السوفييتي العظيم". ولكنه ببراءة الطفل الذي فضح أكذوبة ثياب الإمبراطور تساءل:"ترى ما هو العمل الشرير الذي ارتكبته؟فهل انا قاتل أم وغد؟لقد حملت العالم بأسره على البكاءمن اجل وطني الجميل".والحال مبكية دائما في كل وطن محكوم بالأكاذيب.
أحاديث شفوية: حكم الأكاذيب
نشر في: 21 مارس, 2012: 09:50 م