هاشم العقابيروى لي والدي يوما حكاية مضحكة مبكية في آن تذكرتها هذا الصباح قبل أن ابدأ بكتابة عمود اليوم. يذكر الوالد انه ذهب للنجف مع اخوته ليباشروا بناء قبر والدهم بعد مرور 40 يوما على دفنه حسب ما هو متعارف عليه في عادات اكرام الموتى.
وهناك استوقفهم صوت بكاء مر لرجل بغدادي جاء لزيارة قبر أخيه. وبعد ان بكى البغدادي وانتحب بكل ما به من قوة تمدد بجانب قبر شقيقه مغمى عليه من شدة الحزن والأسى. هرع الوالد ومن معه صوب الرجل ورشوا وجهه بالماء وفرّكوا يديه ورجليه. وبعد أن أفاق رتب "جروايته" على رأسه ونفض التراب عن "صايته" ودخن سيجارته ثم نهض وتوجه صوب قبر أخيه مجددا. لم يبك هذه المرة بل خلع "الكيوة" من رجله وانهال بها ضربا على قبر أخيه. ظن الجمع ان الرجل قد اصابه مس من الجنون، فاحاطوا به واحالوا بينه وبين القبر. تعالى صياح الحاضرين: لا اله الا الله، الرجال اتخبل. صاح الرجل: لا، انا لا مخبل ولا مجنون. لكن القصة وما فيها اني تذكرت "زينات" أخويه وبجيت. بس هسه تذكرت "دكايكه" وقلت خلي اشفي قلبي، آخ لو تدرون شسوه بيه هالـ......ما ذكرني بحكاية الوالد جلسة جمعتني ليلة البارحة بالشاعر الشعبي المصري سعدني السلاموني، اهداني بها كتابه الذي صدر مؤخرا وعنوانه "مجنون رسمي". استلمت الكتاب فتذكرت كل اصدقائي من الشعراء الشعبين بالعراق. والشعراء الشعبيون لهم من الحسنات ما يجعل القلب يقطر حنينا لرؤيتهم والاجتماع بهم. ولهم من "الدكايك"، خاصة بعد مهرجانات التطبيل للحروب التي بدأت في مطلع الثمانينيات، اتذكرها كما تذكر ذلك البغدادي "دكايك" اخيه". للحقيقة اني دائما أتعمد نسيانها ولا استحضر غير ما هو جميل من تلك الايام التي كانت تجمعني بهم قبل ثلاثين عاما.الكتاب الذي أهداني إياه الشاعر المصري ذكرني بأجمل تقليد كنا نمارسه حين يطبع احدنا ديوانه الشعري. يقدم الشاعر صاحب الديوان الجديد على إهداء نسخة منه لكل من أصدقائه الشعراء. وكان الأصدقاء يقابلون الهدية بان يقدم كل منهم للشاعر مظروفا به مبلغ من المال يفوق السعر الذي على الغلاف بأضعاف، وكل حسب إمكانيته. ليس هذا، فحسب، بل يأخذ كل منا خمسة نسخ على الأقل لنبيعها لأصدقائنا ثم نسدد ثمنها لصاحب الديوان. انه نوع من التكافل أو التضامن، يشبه الى حد كبير عادة دفع "الهربة" للعريس لإعانته في تسديد تكاليف زواجه. تقليد تذكرته، فذكرني بتلك الكتب التي كنا نقرأ في أول صفحة منها أن نقابة المعلمين أو وزارة المعارف ساعدت على طبعه. اما أجمل ما ظل ببالي لحد هذا اليوم ان معلما من مدينة الكوت، نسيت اسمه وللأسف، تقدم في منتصف الستينيات بطلب لنقابة المعلمين كي تساعده في طبع كتابه. رفضت النقابة مساعدته بحجة أنه شيوعي. لكن الكتاب صدر بعد حين وفي صفحة الغلاف الثانية عبارة: "ساعد أصدقاء الكاتب على طبعه".ليت احدا ممن تبقى من أصدقائي الشعراء الشعبيين يخبرني ان كانت تقاليد التكافل الحميمة تلك ظلت حية، أم انها ماتت مثلما ماتت أشياء جميلة أخرى في العراق.
سلاما ياعراق : تكافل الشعراء الشعبيين
نشر في: 24 مارس, 2012: 07:59 م