سرمد الطائيكل صحفي او كاتب في الشأن العام يتمنى ان يطلع عن قرب على تفاصيل اجتماع الزعماء حين يحضرون الى بلادنا. لكنني احسب ذلك بعيد المنال عني وعن معظم امثالي، اذ ان الوصول الى مبنى الجريدة يتطلب مشيا لمدة ساعتين وتوسلا بهذا الشرطي وذاك الجندي،
فكيف لي ان اتخيل اغتنام فرصة "القمة" واجراء دردشة مفيدة مع ملك اليمن او شريف مكة او حتى خديوي بورسعيد؟ وهكذا قررت ان انفذ بجلدي نحو البصرة، لرؤية الاهل الذين غبت عنهم ست شهور بسبب العمل والوعكات الصحية، وايضا للبحث عن موضوعات جديدة تستحق التغطية، وفي البصرة التي تجمع كل لون وتاريخ وصراع وثروة مهدورة، بحران: بحر من ماء، وبحر من خبر، وقد ضاع كلاهما على العراقيين.وسألت صديقا لبنانيا يعمل في الصحافة مرة، كيف تبدأ يومك؟ فقال انه يتناول الفطور مع النائب الكذائي، ثم يمر على تجمع لرجال الاعمال فيستكشف جديدهم، وبعدها يلتقي الناشطين في كازينو كذا، او يخرج مع الوزير فلان لتفقد مشروع ما، او ينهمك مع رجل اعمال في الحديث عن أرقام كثيرة واحلام كبيرة.. وهكذا يكون في حوزته كل يوم اشياء كثيرة تستحق ان يحكي عنها في تقرير خبري او تحليل صحفي او عمود ومقال رأي.لكنني مثل كل كاتب او صحفي يقيم في بغداد، لو اردت ان اقوم بواحدة من تلك الجولات التي يتدبرها صاحبنا في بيروت، للزمني اسبوع كامل بدل يوم. فأنت تعلق في الباب الشرقي ساعة، ثم عبر اجراءات التفتيش عند اي امير صغير او وزير ثانوي، ساعتين، ثم ينتهي يومك وانت لم تكد تفعل شيئا. وحتى لو التقيته فنادرا ما يكون مزاجه مناسبا لقول شيء، بينما السياسي او رجل الاعمال اللبناني لن يتركك تخرج خالي الوفاض.. امزجة شعوب وتاريخ مختلف طبعا.ومن قال ان في وسع الصحفي العراقي ان يفهم بغداد مرة في اليوم وسط كل هذه الاجراءات؟ اما في قمقم القمة فلا سبيل لك ان تخرج من دارك الى محل عملك، وعليك ان لا تحلم بما هو اكثر، ولعل صحافة السلطان تتولى نيابة عنا نقل ما تشاء اذن، من داخل اشد تحصينات البلاد حصانة. والحل هو الرحيل الى "البصرة وما والاها من اعمال ميشان وكلدة".وقبل ان اشد الرحال حاولت ان اعمل "سيرتش" على اخبار المال والاعمال، في البصرة او سواها. فوجدت الاخبار العراقية تحتشد بكل ما هو سيء سياسيا وامنيا، واننا غير معنيين بالمائة مليار دولار التي ستنفق خلال العام الحالي. لا توجد حصيلة تقول لنا اين وصلت محطات الكهرباء قيد الانشاء. او كيف ستنفق الوزارات موازناتها. او كم مستثمرا نجح مطلع العام الحالي بتمرير معاملاته للبدء في اشياء نافعة. وصحيح ان العبء تتحمله صحافتنا فهي كسولة في الغالب او ضعيفة شاردة البال بأخبار الخوف والفزع و"ضيجة الخلق"، لكن الدولة العالمة بأسرار الارض والسماء، لا تريد تسويق هذا الشأن الحيوي من حياة الناس، ربما لانه مليء بالفضائح وألوان الاخفاق والفشل والتعثر.. وربما لأنها "تخشى الحسد".سأحاول في البصرة ان افهم السر في عدم ظهور مشاريع كبرى رغم مرور سنتين على العمل بمبدأ البترودولار، اي منح المحافظة دولارا على كل برميل نفط تنتجه، وهي تصدر تلقائيا نحو مليوني برميل يوميا، اي ان هناك مليوني دولار تدخل الى البصرة يوميا، لكنها تخفق حتى في وضع جسر محترم على ضفتي شط العرب، بعد ان دمرت امريكا جسرها المعلق الوحيد قبل ربع قرن.. هناك اشياء كثيرة سأحاول فهمها، وللحقيقة فإن المسؤولين في المحافظات ألين عريكة من نظرائهم في بغداد. وقد جربنا خلال الشهور الماضية التواصل مع محافظات عدة فكان مسؤولوها اسهل تواصلا مع الصحافة، ولا يترددون في الاعتراف بالخطأ والتعثر، كما لا يكتمون خوفهم من انتخابات مجالس المحافظات المقررة بعد تسع شهور تقريبا، اذ ربما قرر الناخبون معاقبتهم لانهم لم ينجزوا شيئا خلال اربعة اعوام من ولاية الحكومات المحلية. وبالمناسبة فإن لا احد غير جريدة المدى تحدث عن الانتخابات المحلية المفترضة، والجميع صامت، حتى انني بدأت اشك: هل هناك انتخابات اخرى ام سنظل كلنا برسم تصريف الاعمال؟ الى البصرة اذن
عالم آخر : قبل الذهاب الى البصرة
نشر في: 24 مارس, 2012: 08:00 م