سرمد الطائيالبصرة اكبر مختبر للتناقضات العراقية. فقبل ان افتح اللابتوب لكتابة هذا المقال مررت بالسيارة على اكبر شركة بترول في البلاد وتأملت بنايتها المعروفة باسم الزقورة استيحاء من المعبد السومري العتيق الذي كان يطل قبل 4 الاف عام على البحر. شركة نفط الجنوب تدير اكبر خزان نفطي في الشرق الاوسط وتتعامل مع 7 من عمالقة البترول لتطوير انتاجها.
انها زقورة تعوم على بحر من النفط، وفي الوقت نفسه وعلى نقيض جدتها السومرية، تطل مباشرة على بحر من المياه الآسنة. فالجدول الذي يحيطها كان قبل 100 عام ممرا للزوارق، لكنه اليوم مثوى للمياه الآسنة والرائحة النتنة التي تشوه الحياة في مركز المدينة. وأمام هذا التناقض يمكنك ان تحدق طويلا في صراع الاحلام وسوء الادارة على طول العراق وعرضه.ويقال ان كل الاحزاب تتسابق على الانجازات في الوقت الضائع، فانتخابات مجالس المحافظات مقررة بعد نحو 7 شهور، والمحافظ الممثل لكتلة رئيس الحكومة نوري المالكي، مصمم على ان يصنع شيئا. وفي المدينة حركة متسارعة للبناء تذكرك تقريبا بأربيل قبل 4 اعوام. بنايات كثيرة ترتفع وفلكسات عملاقة تتحدث عن مولات قيد الانشاء، و14 مجسر كبير بدأ العمل بها دفعة واحدة وراحت تصعب الحركة في الشوارع التجارية مثل الجزائر والمعقل والجنينة.. وهناك من يهمس بأن المحافظ خلف عبد الصمد ابرم اتفاقا نهائيا بشأن ميترو للنقل العام لتسهيل حركة 7 ملايين نسمة يتوقع ان يأتوا للعمل في البصرة خلال الاعوام المقبلة (يا للاحلام) فضلا عن سكانها الذين بلغوا نحو 4 ملايين. بل ان الحياة الحديثة تتحرك ايضا رغم اغلاق حوانيت المشروبات الروحية التي يديرها المسيحيون في العشار. اذ تقول لافتة طويلة عريضة ثبتت عند اكثر من تقاطع، ان المطرب هيبت البدر يحيي حفلا ليليا في فندق الشيراتون المزدحم برجال الاعمال الاجانب.لكن كل ذلك يجري وسط بحر التناقضات والمياه الاسنة التي تطل عليها اكبر شركة لانتاج النفط في العراق. تفكر في كل ذلك وتهرب من فوضى المدينة الى شاطئها الفريد، وهو المكان الوحيد في العراق الذي يجعلك تشعر بما يعنيه البحر من تواصل مع الدنيا. تشعر بالسعادة لرؤية بضعة سفن حديثة وقفت وسط الشط الى جوار مئات الزوارق العتيقة المهملة. تواصل البحث عن التاريخ عند كورنيش العشار كما تفعل كل مرة، وتمر عند تمثال بدر شاكر السياب العتيد، وتسأل مهندس النفط: ما حكاية منصة تصدير النفط الجديدة التي تعمل يوما وتتوقف اياما؟ لقد نفذتها شركة ايطالية وسط البحر لكنها تتعثر. يجيبك: لقد نفذها الاجانب بشكل جيد لكن المشكلة في عملية تحوير للمضخات قام بها مهندسون عراقيون. فقبل عشرين عاما توقف خط البترول الذي يصل البصرة بميناء ينبع السعودي. وبقيت مضخاته مهملة وقررنا استخدامها اليوم لضخ بترول المنصة البحرية الجديدة. لكن المشكلة ظهرت مع المحركات القديمة. فهذه كانت تضخ نفط العراق عبر السعودية وتصعد به جبال تهامة وعسير ثم تنزل به نحو ساحل البحر الاحمر. اما اليوم فيراد لها ان تقوم بدفع بسيط لنفط البصرة عبر ارض مائلة نحو الخليج العربي ولمسافة اقصر بكثير. والامر يتطلب خفض سرعة المضخات، والتحوير تطلب تجارب عدة حتى استقر حاليا وصار ملائما للمهمة الجديدة.وحسب صاحبنا فإن مضيق هرمز حين يتعرض لأي اغلاق بسبب حرب ايرانية، يمكن للمضخات هذه ان تعود للعمل حين تضغط واشنطن على "اصدقائنا" في السعودية لاعادة استخدام انبوب نفط العراق المتوقف عند مرتفعات تهامة والحجاز.تتأمل حال البصرة كمختبر لافت لكل تناقضات العراق واحلامه الناقصة. تتخيل المحافظ خلف عبد الصمد وهو يتسلق قمة جبال عسير ويحلم بأن يعاد انتخابه ثانية، فيجفف المياه الآسنة قرب زقورته النفطية، ويتغلب على احتمالات الحرب في هرمز ليمرر بتروله عبر بحر القرمز، وان يحظى بدقيقة من وقت حليفه السلطان في بغداد والمشغول جدا بطارق الهاشمي والقضاء على الايمو.. كي يدعمه في اقامة توازنات صعبة بين احفاد خسرو وأولاد قصي بن كلاب الذين نتفرج عليهم وهم يتصارعون عند شواطئنا العراقية. هناك بالضبط تدرك كم هي صعبة احلام العراقيين، وكم هي المعارك الجانبية التي خضناها واضعنا معها الوقت والفرص في اصعب اوقات القرن الجديد
عالم آخر: تناقضات البصرة وما وراء جبال عسير
نشر في: 27 مارس, 2012: 07:59 م