علي حسينيوم ارسل الامير فيصل الذي اصبح فيما بعد ملكا على العراق رسالته الشهيرة الى عدد من الشخصيات السياسية العراقية يسألهم فيها: ما نوع الدولة التي يرغب العراقيون باقامتها؟ وهل هم متحمسون لدولة يقودها نظام برلماني مدني ام الى دولة يحكمها ملك من خلال الشريعة الاسلامية؟ ويفاجئنا الجواب الذي اتفق عليه معظم الساسة آنذاك وهو ان الجميع متفقون على اقامة دولة مدنية قوامها المساواة بين جميع الطوائف.
كان هذا سنة 1917، كان العراق انذاك نموذجا للدولة المقبلة على الحرية، نوابه ووزراؤه من نخبة الناس، عاصمته تزدهر فيها الثقافات والتجارة والمدارس وتبنى فية الجامعات، كان الرصافي يوجه خطبته الشهيره لاول مجلس نيابي يؤسس في العراق قائلا: " ان الملك لم يخلق لتكون البلاد له، بل هو نصب ليكون خادما للبلاد والعباد، ثم ان الملك لايجوز له مناقضة تلك الشرائع المسنونة على ايدي نواب البلاد، ان ارادة الملك يجب ان تخضع لارادة الامة " .بعد الرصافي ياتي الزهاوي الذي يطالب في مقالة ينشرها في صحيفة المقطم المصرية بأحكام العقل وتجارب الامم وقواعد السياسة في حكم البلاد، ويضيف ان على العراقيين ان يبنوا قواعد حكمهم ونظام حكومتهم على احدث ما انتجت العقول البشرية وافضل ما جاءت به تجارب الامم المتقدمة، فيما رجل الدين والشاعر محمد رضا الشبيبي يرعى بنفسة افتتاح مدارس البنات ويجلس مبتسما وسط معلمات مسيحيات ويهوديات ، في ذلك الوقت يعلو صوت الشيخ علي الشرقي ضد الطائفية واساليبها الخبيثة ، محذرا البعض ممن يتخذذ من الدين وسيلة لقمع الاخرين ومصادرة حرياتهم ، كاشفا زيف دعوات البعض بابيات من الشعر ذهبت مثلا انذاك انظر إلى سبحته ... ترى الذي أقول لكشيطانه كخيطها ... بين الثقوب قد سلككان هذا عراق العشرينيات حين وضع العراقيون على اختلاف دياناتهم عقدا اجتماعيا فيما بينهم يحقق مصالح الجميع ويدافع عنه الجميع،هؤلاء الكبار بتجاربهم العظيمة فى فك رموز قوة العراق واستخلاص أفضل النتائج منها، فى سنوات حشد الهمم والتضحية والاعتزاز بالكرامة والولاء للوطن.. هؤلاء الكبار الذين ربما لا يعرف الجيل الجديد حتى أسماءهم جيدا.. ولايتذكر البعض وجوههم، يطلون علينا كلما تعرض البلد الى محن واهوال .اليوم غابت القيم الحقيقية لبناء الدولة المدنية واصبحنا نعيش في ظل ساسة يتاجرون باسم الطائفة والدين ، ويكسب البعض منها ثروات طائلة..بينما تعانى الأغلبية من الإهمال والفساد والرشوة.. سياسيون استغرقوا في برامج " لردح السياسي " واصبحنا نشاهد وجوها غابت عنها ملامح الطيبة والتسامح والاهم المعرفة، وجوها تدعي بطولات زائفة واكاذيب ملونة، حفظنا أصواتهم ووجوههم.. وضجرنا من تكرار أحاديثهم..وآن الاوان ان ندير المؤشر صوب بناة العراق الحقيقيين،..ونسألهم كيف يمكن الخروج من المأزق الحالي؟ ان هيبة الدولة هي الضمان الوحيد لايجاد مظاهر العدل الاجتماعي والمساواة السياسية والقانونية بين مواطنيها وهي الإطار المشروع لفلسفة السلطة المدنية والحكم الصحيح الذي يرتفع فوق الاختلافات الدينية والفوارق الطائفية ويؤمن بأن العراق بلد لكل ابنائه على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم ‏,‏ فالدولة المدنية هي وحدها الدولة العصرية ومن يقول بغير ذلك انما يبيع الوهم ويتاجر بالشعارات ويدغدغ المشاعر على حساب مصالح الوطن والناس.لقد اثبتت تجارب الشعوب المتقدمة ان التعايش المشترك والمجتمعات القائمة على التعددية الدينية هي الاسرع في الاتجاه نحو التقدم والأكثر استيعابا لروح العصر والاقدر على امتصاص مظاهر التحضر وعناصر الارتقاء‏,‏ فالتعددية نعمة وليست نقمة لان المجتمعات متعددة الالوان اكثر ازدهارا واشد بريقا امام الغير وأكثر استجابة لروح العصر وتقاليده الجديدة‏,‏ كما ان الاقليات العددية تمثل غالبا مركزا نشيطا في الحياة العامة وتلعب دورا فاعلا في التطور الاجتماعي، الناس تريد ان تعيش في دولة مدنية قائمة على سيادة الدستور والقانون واستقلال القضاء والحريات العامة وليس على فتاوى وامزجة البعض ممن لا يفرقون بين حقوق الناس وواجباتها .يجب أن نعلي من شعار الدولة المدنية وإلا فإن الانحراف عن هذا المعنى سوف يؤدي إلى فوضي، ولعل ما يقوم به البعض من خلط بين الدين والدولة يشكل خطراً شديدا على الحريات. هذه المظاهر التي تمارس في العديد من محافظات العراق ومؤسسات الدولة تسبب حالة من القلق على مستقبل النظام السياسي التي نتمنى أن يحتكم فيه الجميع إلى القانون وقيم الديمقراطية والأخذ بمبدأ المواطنة بين الأفراد رفع الشعارات الطائفية بوجه البعض انما هو حق يراد به باطل.
العمود الثامن: متى ستنتهي لعبة الطوائف ؟
نشر في: 28 مارس, 2012: 07:54 م