شاكر لعيبيكتاب د. جابر عصفور الممتع "الرواية والاستنارة" (الصادر عن دبي الثقافية 55/2012) يروي العلاقة بين طلوع أنساق الوعي المديني ونشوء الرواية في العالم العربي، خاصة في مصر وبلاد الشام. يذكر عصفور في أكثر من موضع أن أوائل أعمال النهضة يكشف عن محاججة "لم تكن تقليدا سلبياً للغرب، وإنما محاولة لتعلم أسرار تقدُّمه من منظور نقدي"، ويعتقد أن "الوصل بين الصناعة والفنون [في تلك اللحظة] إنما هو تأكيد العلاقة المتبادلة بين التحديث والحداثة".
لا شيء في رأينا من بين أهم المحاججات النهضوية يبرهن إدراكاً عميقاً من طرف جمهرة مثقفي النهضة لمفهومٍ عميق (للحداثة) غير معنى (التحديث) الذي وقعت ملاحظته ووصفه بانبهار في أعمالهم. لقد تداخلت واختلطت فكرة (التحديث modernization) التقنيّ، وأحياناً الشكلانيّ، بسياق ومرجعيات (الحداثة). وهذان المصطلحان يتناوبان الأدوار في الاستخدام العربيّ الشائع من حينها حتى اليوم، ويثيران جملة من الإشكاليات الفرعية، خاصة عندما يعتبر دخول التقنيات الجديدة رديفاً للحداثة، للوعي الحديث بالعالم. بعبارة أخرى واضحة: من دون الأساس السياقيّ والمفهوميّ والتاريخيّ لمفهوم الحداثة فإننا أمام أمر آخر مختلف يتلبس لبوس تحديث خارجي، كأن ترتدي لباسا حديثاً بينما ما زال وعيك مشدوداً إلى قيم الماضي. لن يختلف اثنان على أن سياق انبثاق مفهوم الحداثة أوربيّ بالدرجة الأولى، الأمر الذي يضيف المزيد من المشكلات.من البراهين الموضوعية لهذا الاختلاط بين المفهومين المختلفين المذكورين هو الحقل الجمالي والتشكيلي. يمكن إيجاد شواهد لذلك. فمنذ مثلاً أوائل الرحلات العربية، وليكن عمل محمد بن عبد الوهاب الغساني "رحلة الوزير في افتكاك الأسير" 1690 - 1691م، نلتقي باندهاش رجلٍ يراقب البون بين نسق الحياة (الحديثة) في إسبانيا المشاطئة والحياة (التقليدية) العربية الإسلامية. ثمة هنا شعور بالغربة والتغرُّب عن العالم الحديث المُشاهَد، لكي يقع التركيز في المقام الأوحد على التحديثات الخارجية، البرانية التي مسّتْ جميع مرافق الحياة الأوربية، من دون امتلاك وعي بالتحوّلات البنيوية والفلسفية والصراعات العنيفة أحيانا التي كانت السبب المؤدي إلى نمط اجتماعيّ وثقافيّ حديث، أي مناهِض للنزعات التقليدية، فكراً ونشاطاً. على الصعيد التشكيلي توقف أولئك المسافرون إلى فرنسا وإنكلترا أمام الفن التشكيلي الأوربي، رسماً نحتاً. وقد واجهوه في ساحات ومتاحف القارة بذهول ما بعده من ذهول لجهة طبيعته (الواقعية) التي لم يكن يوجد لديهم مثال يضاهيها. فن التصوير يصير مثالاً باهراً يضيء فرضيتنا عن التقنية كحداثةٍ. كان النهضويون أو الراغبون فيها محكومين بشروط تاريخية منعتهم من تطويرِ فهمٍ آخر للرسم التشخيصي والنحت، فإن رجلاً عربياً مسلماً من القرن التاسع عشر مثل الرحالة العمراوي 1860م ظلّ، من جهته، محكوماً باشتراطات الماضي، وغابتْ عن وعيه أيَّ مفهومة حقيقية لحداثة الفن الذي التقى به في فرنسا، سوى توقفه عند براعة الرسامين الفرنسيين في نقل المرئي، دون أن يتطلَّع إلى المرجع الفكريّ والنظريّ المنبثقين عنه. كانت تغيب عنه مرجعيات "التمثيل" التشكيلي وجميع سياقات تطور الرسم الواقعي الذي مر بتحوّلات ليست جوهرياً سوى السجالات الثقافية والفلسفية للثقافة الأوربية.رؤية المَشْرِقِيين رفعت الطهطاوي وفارس الشدياق، عن الفن التشكيلي الأوربي بصفته رمزاً لعالم جديد محيِّر، من بين رموز أخرى تتطابق، بهذا القدر أو ذاك، مع رؤى المغاربة السبّاقين في الذهاب إلى أوربا. ظل الطهطاوي مبهوراً بما تحتويه المتاحف الفرنسية وبالتقنيات عامةً، هو العائد من فرنسا إلى بلده بمشروع متكامل منطقيّ يقوم على إعادة تأهيل تعليمي، وتصنيعي للمجتمع المصري ودائماً من دون أسٍّ معرفيّ مُغايِر ونظرةٍ جديدة للعالم. أما خير الدين التونسي فحداثته ستبدو (انتقائية)، كما هو الحال اليوم بالضبط في الكثير من الأوساط. مسعى كتابه (أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك)، كتابه العارف والمتقدّم أطوارًا عن المرحلة التي كُتب بها، ليس في الغالب الأعم سوى الموائمة بين (القديم) السلفيّ، وبين (الحديث) المُعاش المرئيّ عياناً. إنه مصالحة بين ما لا يمكن إلا بصعوبة مصالحته، مكتوبة على يد رجل صادق ودارس لإرثه الإسلامي، وعارف بالتطوّر التاريخيّ للغرب. في "التقنية وحدها بصفتها حداثة" المنشورة قبل سنوات بجزأين في المدى، أوضحنا بالأمثلة كيف يخلط العقل الديني بين التقنيات الحديثة ومعاني الذهول والعجب والتعجب القريبات كلها من الغرائبي والسحري والميتافيزيقي، حتى أن الرحالة الحجوي (الرحلة الأوربية 1919م) يستخدم مصطلح "الكشف الذي أنكره بعض المعتزلة" في معرض وصفه لآلة التلفون. هنا، نحن أبعد ما يكون عن مفهوم الحداثة.
تلويحة المدى: الرواية والتحديث
نشر في: 30 مارس, 2012: 07:36 م