سرمد الطائيفي المقال السابق "البصرة وما وراء جبال عسير" تحدثت عن أزمة الحكومة المحلية التي لم تفعل شيئا طيلة 3 أعوام، ثم اكتشفت ان الدنيا كلها مستغربة حيال عجز المدينة عن انفاق مليار دولار من الموازنة و"البترودولار". ولذلك فإن البصرة هذه الايام مزدحمة بالآليات التي تريد تشييد 10 مجسرات دفعة واحدة.
الناس يتأففون من قطع الشوارع والمحافظ مستعجل لأن حكومته اضاعت 3 سنوات بلا منجز وعليها ان تواجه استحقاق الانتخابات. وراديو المحافظة يصدح: سنزودكم بـ20 ساعة كهرباء العام المقبل، وما عليكم سوى ان تصبروا هذا الصيف!على ان التفاؤل لا ينتهي وسائق الزورق الذي يجول بنا كل ليلة في شط العرب بين كل السفن المهيبة، يتحدث كبحّار لا يمل من الحلم. ينظر الى المطاعم العائمة وبضعة بنايات شاهقة قيد الانشاء ويحلم بعمل افضل. وقبل صعودنا الى زورقه الخميس، رمقنا وفدا اجنبيا يتجول على الكورنيش وتصدر عنه "رطانة" اوربية. رجل عراقي مرافق للوفد جاء لإلقاء التحية. سألته: ما اخبار الخواجات؟ قال: هؤلاء وفد ايطالي متخصص بتدوير النفايات، وسبق لهم ان انشأوا مصنعا يخدم كردستان ويساعد في تخليصها من القمامة ويعيد تصنيعها في مشروع استثماري. لكنهم يحاولون ان يكرروا التجربة في البصرة ومهمتهم تتعثر. الصديق حسن الفرطوسي علق على "تعثر المهمة الايطالية" قائلا: ألم يعلم اهل روما ان زبالتنا عزيزة؟ويتحدث رجال الاعمال عن ارتفاع جهنمي في اسعار الارض. لأن القطاع الخاص حائر في العثور على ارض يقيم عليها المشاريع. واذا اردت ان تنشئ مبنى تجاريا في مراكز المدينة الحيوية مثل المعقل او الجزائر او العشار، فقد تضطر لشراء المتر بـ5 آلاف دولار، لأن معظم الاراضي مملوك لوزارة النفط، وشركتها التي تدير اكبر حقول البترول وتطل على بحر من المياه الآسنة قرب ساحة سعد الشهيرة.الموسيقى تصدح من الكازينوهات، وهناك من يتوافد على شيراتون لحضور حفل غنائي. وثمة حنين ونوستالجيا الى الفن في البصرة. فاتحاد الادباء استضاف الملحن طالب غالي وزوجته الفنانة أم لنا، والشاعر علي العضب. وراحوا يتحدثون عن تجارب السبعينات وحكاية انتاج اوبريتات "المطرقة" و"بيادر الخير" التي قدمتها الفرق البصرية.السيدة أم لنا راحت تقرأ اسماء المشاركين في انتاج تلك اللوحات الفنية. والقائمة بدت زاخرة بأسماء ارمنية وكلدانية وآشورية لم تعد هنا، وتحكي فناً لم يعد يولد على ارض العراق. لكن الاحياء المسيحية "صامدة" وحين تتسكع في مناوي باشا و"بريهة" تسمع تردد اسماء مثل "آلن وكيتو وستيفن."الا ان حديث الهدم والرحيل حاضر بقوة. والغناء ومقاطع الاوبريتات ترددت في اتحاد الادباء عبر خرائب حي "نظران" الاثري الذي اقام الباشوات والتجار في شناشيله قرونا، وتحول الى مدينة آيلة للسقوط اليوم. وفي مدخل الاتحاد وضعت نحو 100 صورة تؤرخ للبصرة، لكنها عمليا تسجل خراب المدينة. هناك صورة للسور الذي ظل جزء من بواباته قائما قرب نهر الخندق حتى الستينات ثم هدمته الدولة. صورة اخرى لساعة "سورين" مصلح الساعات الارمني الشهير، وقد هدمته الدولة. صورة ثالثة لمبنى الحكومة العثمانية "السراي" وقد هدم ببركة قرارات واحدة من حكوماتنا الكثيرة الفاشلة، ناهيك عن صور غابات النخيل التي تكاد تختفي بالكامل، حتى ان جدتي توقفت منذ سنوات وبيأس شديد، عن استذكار بستان الاهل على شط العرب والذي افنت فيه عمرها ثم جاءت الحروب المتتالية وأحرقته.تتردد على مطاعم وكازينوهات واسواق يجري تحديثها مع محاولات لبناء نموذج "المول" بسلالمه الكهربائية، وتكتشف ان الكثير من الاصدقاء "البغادة" هرب من قمة العرب وحظر تجوالها وجاء الى البصرة. ولعلهم مثلي، يفرحون بالساحل النهري المهيب وسفنه العتيقة، وبسوق السمك الذي يظل بمثابة "متحف" لأنواع المخلوقات النهرية والبحرية.. وبترديد كلمة "حبوبي" حين يستخدمها اهل المدينة في مناداة بعضهم. لكنهم يرون في البصرة مختبرا كبيرا لتناقضات عراق طال وقوفه على مفترق طرق.. وهو حائر بأحلام البناء ونزوات الساسة. وكما ستعلق في ذاكرتهم رائحة الشاطئ وأخشاب السفن التراثية، فإنهم سيتذكرون بألم "ذاكرة الخراب" المثبتة في مدخل حي نظران، حيث تبدو البصرة كـ"اوبريت متعثر" وشناشيلها "جدارية عملاقة" تؤرخ كل سيرة الفناء، كما تقيس مدى صعوبة الأحلام في بلادنا.
عالم آخر: اوبريتات متعثرة بين خرائب نظران
نشر في: 31 مارس, 2012: 09:51 م