محمد عطواندائما كنت أتساءل مع نفسي عن معنى الإحساس الذي يغمرني وأنا أعيش كرنفالات الحزب الشيوعي العراقي موسميا، وكنت أتساءل في سري أيضا؛ إلام تنتمي هذه الأجواء التي تتشكل في أفضية الحزب وأنا ابن الجيلية التي لم تشهد زمنه وحياته، والتي تجبرني دائما على التقاط المعاني والأماني وتسجيتها، واستراق الملامح والروائح وتشممها، واجترار الفجائع والوقائع وتقليبها، التقاطها واستراقها واجترارها من أجواء تعود إلى سني الأربعينات والخمسينات والستينات وحتى السبعينات، ذلك الزمن الذي تنتمي إليه هذه الجماعة المحتفلة.
إن ما أشاهده بتعبير مايك كرانغ: "أفضية تتشكل خارج المجتمع العادي، أفضية يستطيع فيها المشاركون أن يحسوا بانتماء عاطفي ويحتفلوا بثقافة الجسد والرقص والحرية في صدوع المشهد الثقافي المعيش.وإن ما يُمارس هو اقرب ما يكون إلى احتفال لجماعة ثقافية أو أقلية "عرقية" قديمة لها طقوسها وعاداتها وانجذابها لتفاصيل حياتها الأولى إلى الدرجة التي يصل أفرادها إلى الذوبان والاندكاك المغرق في الطقس من خلال الأناشيد والتراتيل والهوسات.ذات مرة شاهت شريطا فيلميا قصيرا يعرض عرسا يهوديا في إسرائيل، ويغني المحتفلون فيه أغنية لهم على الطريقة البغدادية عنوانها (عافاكي) وكانت هذه الأغنية بالرغم من أجواء الضحك والابتهاج تقطر حزنا عميقا ووجدانا رطبا، وفيها تأملت عيش هذه الجماعات وهي تُعبِّر عن وجودها من خلال استدعاء ذاكرتها المتوارثة، وفي وطن مستنسخ أو مبتكر، لا يعفيها من بحثها عن وطنها المتخيل، موطن الطفولة والأغاني المحلية والأحلام والسهرات. وطنها الذي يتهدده الزوال في المنفى والداخل، وجماعات الوطن مهددة بالضياع هي الأخرى، ولهذا تُحيي حضورها بشجونها وآهاتها ورقصاتها. ربما أدّعي أنه لا توجد موحدات اجتماعية نستالوجية تديرها جماعة أو طائفة أو حزب كالتي يعيد تشكيلها الحزب الشيوعي العراقي في العراق اليوم. يعمد بوصفه "جماعة" إلى تأسيس حضوره الاجتماعي والوجداني من خلال موحدات قيمية وثقافية من صناعته هو، بطريقة يبتعد في توظيفها كثيرا عن التعبئة والتجنيد، ليقترب من الحنين إلى نقطة المبتدأ، حيث الايدولوجيا لم تكن ــ مع الناس ــ بناءً سلبيا يخلو من معنى، والمثقف لم ينفك ينشر حتى يجد شعره تُداوله الألسن، ومقروءه موضوع سجال الطبقة الوسطى والشغيلة. والشعار أي شعار كان يتشربه الناس مثل برنامج عمل ملزم، والمناضل كان يقوى على تثقيف أبناء المحلة، والأناشيد تحفظ عن ظهر الغيب. إن ما يُحيا من الطقوس/الاحتفالات يشعرني دائما بالعودة إلى جماعة لم تعد تتلفت إلا إلى جدار الماضي ولا تتنفس إلا هواء الذكريات. قد يبدو توصيف الحزب بالجماعة الأقلية الـ "عرقية" قدحا فيه، ولكني أعني في ذلك الأقلية القائمة على الهوية العراقية التي أخذت شيئا فشيئا بالانحسار، وهي أقلية كانت تمثل يوما الطابع الثقافي والاجتماعي العراقي من مجالاته الأوسع.لم يكن الشيوعيون يمثلون غالبية الفقراء والمعدمين من أبناء القرى والأرياف حسب، أو من يطلق عليهم وصف الأقليات العراقوية بصياغة إريك دافيس من منظور القوموية، إنما كانوا يمثلون النسق الاجتماعي الثقافي والسياسي العام الذي يتخلل التفاصيل الحياتية صغيرها وكبيرها. الشيوعيون لم يجهزوا على الحياة السياسية البرلمانية والمدنية يوما بحسب ما يشاع، ولم يكونوا وراء انقلاب بكر صدقي أو حركة ضباط مايس، ولم يكونوا مع عبد الكريم قاسم بالمعنى الاختزالي الذي يطول الشيوعية، هم ليسوا داود الصائغ في الستينات أو الجبهة التقدمية في السبعينات، إنما هم الروح الشعبي الخالص بعيدا عن مدارج الانتماء و"المأسسة" والنسخ المستوردة والايدولوجيات، إنهم يعيشون بيننا الآن وفي بيوتنا، إنهم النـ"حن" على سعة الـ"نحن"، لكنهم على كثرتهم وبيان هويتهم أضحوا يمثلون قلة عراقية مفارقة لا تحتفي بغير ترانيم الفرح.
في نوستالجيا الفرح الشيوعيّ!
نشر في: 1 إبريل, 2012: 07:12 م