علي حسينتقول كتب التشريح الطبي إن الدماغ البشري مقسم إلى أجزاء، أكثرها تعقيدا جزء النسيان وأهمها جزء الذاكرة.. واكتشف العلماء أن هناك جدارا يفصل بين هذين الجزأين بحيث لا تختلط في ذهن الإنسان أحداث الماضي مع وقائع الحاضر.. ولان الله لطيف بالعراقيين فقد ساعدهم بأن أزال هذا الجدار ليختلط الأمس باليوم وبذلك صارت لهم مناعة ووقاية طبيعية اعتادوا من خلالها على تقبل وتجرع تحولات السياسيين.. وإلا كيف يمكن لهم أن يضحكوا ويعيشوا ويحزنوا وهم يتابعون المسيرة الظافرة
للعديد من ساستنا وتنقلهم المفاجئ من اليمين إلى اليسار حينا ومن الشمال إلى الجنوب أحيانا كثيرة وإصرارهم أن يعيش الشعب ويموت معهم في منطقة رمادية بلا ملامح ولا تضاريس. ولهذا لم أُصب -أنا العراقي المسكين- بالدهشة أو الحيرة حين وجدت السيد نوري المالكي يلوح هذه الأيام بنسخة من الدستور، وهو يشن حربه المقدسة على الجميع متبنيا سياسة حافة الهاوية. من باب التذكير أن نقول إن دستور عام 2005 كان باتفاق ومباركة جميع الأطراف السياسية، ومن باب الإعادة أن نذكر أن هذا الدستور نفسه لم يجر عليه أي تعديل منذ لحظة إقراره، وهي النسخة نفسها التي قال عنها المالكي قبل أشهر إن "ما وضع في الدستور الذي استفتي عليه قبل ست سنوات أنتجته حكومة على أساس طائفي، لقد اكتشفنا بأننا زرعنا ألغاما ولم نزرع حقوقاً"، وهو كلام تأتي أهميته أنه صادر من نفس الشخص الذي يصر اليوم على مطالبة الجميع ألاّ يهربوا من الدستور لان في هذا هلاك للضرع والزرع ويقول لنا بالأمس: أن "الدستور هو الذي ينهي جميع المشاكل، لكن عدم تطبيقه يعني تفاقم هذه المشاكل والقضاء على مصالح الشعب العراقي". أدرك ويدرك غيري كثيرون أن تلويح السيد المالكي بالدستور وفي هذه اللحظات يثبت بالدليل القاطع أن الرجل إنما يمهد الأجواء لشيء كبير قادم في الطريق.. ولأننا نعرف جيدا أن لا احد من السياسيين قال بعدم شرعية الدستور، ولم نسمع يوما أن جهة سياسية طالبت بحذف فقرات من الدستور لأنه يتعارض مع مصالح الناس، المرة الوحيدة التي سمعنا بها الحديث عن الخراب الذي سيلحق بنا لو طبقنا الدستور كانت من السيد المالكي نفسه الذي حذرنا من اللجوء للدستور في موضوعة صلاحيات رئيس الوزراء والحكومة المركزية.. فما الذي حصل ليصبح الدستور اليوم مرضي عنه ومدلل عند السيد رئيس الوزراء ومقربيه. لعل أكثر ما يلفت الانتباه في الآراء والفتاوى التي أطلقها السيد المالكي في هذا الصدد هو هذا الترصد للقوى السياسية الأخرى ومحاولة جرها إلى معركة جديدة، حيث يبدو الأمر دون بذل أي جهد في التفكير أن الحوار يأتي في إطار حملة أو مشروع حكومي لتطهير الأجواء من كل ما يتعارض مع صلاحيات رئيس الوزراء، حيث لا يجد المقربين من المالكي غضاضة في وصف معارضيه بأنهم فاقدو الشرعية.للأسف أن معظم الجدل السياسي المثار سقيم وله طعم الماضي المليء بالمرارة والخوف.. لقد مل العراقيون سقطات الساسة وتلونهم، ويريدون اليوم ساسة يأخذونهم إلى المستقبل.. لم يعد بإمكان الناس اللهاث وراء مواقع المسؤولين الذين يتغيرون بين ليلة وضحاها، من صراع إلى صراع، ومن مكاسب إلى مغانم.. لقد ولى الزمن الذي يفرض فيه الرجل الواحد والخطاب الواحد والشعار الواحد والوصايا المسجلة باسم شخص واحد..الناس تريد ساسة ومسؤولين يلغون من ذاكرتهم لهجات الحروب ومنازلات أم المعارك وعتمة الخوف التي دفعوا ثمنها عقودا من حياتهم ومستقبل أبنائهم.. لابد أن نخرج إلى الضوء وذلك يتطلب تغيرا جوهريا وعميقا في طبيعة الخطاب السياسي، فلا مكان لمن يرى في الطائفة شهادة وطنية تميزه عن باقي العراقيين، ولم يعد مقبولا أن يقول احد ان له الحق الأول والأخير في حكم العراقيين، الناس تريد ساسة ومسؤولين مجبولين على التوافق والحوار، لا يضيعوا مستقبل البلاد في جدال عقيم عن دستور يعشقوه مرة ويخافون منه مره بطريقة تذكرنا بالفيلم الكوميدي "دستور يا أسيادنا" طبعا مع الفارق بين خفة دم وموهبة بطله إسماعيل ياسين وطريقة ساستنا الأفاضل الذين يعتقدون أننا شعب تائه ويحتاج لمن يدله إلى طريق الهداية.
العمود الثامن :دستور يا "أسيادنا"
نشر في: 1 إبريل, 2012: 11:00 م