هاشم العقابيتنبه البعثيون، بعد قيام ما سمي بـ "الجبهة الوطنية التقدمية" في العام 1973، الى وجود سلاح خطير بيد الحزب الشيوعي ما كانوا قد حسبوا له حسابا من قبل. كان السلاح هو الشعر الشعبي. لم تشغل السلطة البعثية في تلك الأيام بالها بالثقافة والشعر مثلما كانت تشغله بكيفية السيطرة على الأجهزة العسكرية والأمنية وترسيخ دعائم عسكرة التربية والمجتمع وتبعيثهما. عاد ذلك الانشغال بالنفع على القصيدة الشعبية التي ما كنت تخضع بسببه لمراقبة مباشرة من قبل السلطة وأجهزتها الأمنية.
لذا شهدت المهرجانات الشعرية التي اقيمت في محافظات الناصرية والبصرة والعمارة والديوانية والسماوة قفزة إبداعية في شكل ومضامين القصائد التي كانت تلقى فيها. لم يكن محظورا على الشيوعيين تنظيم مهرجانات شعرية او ثقافية، مثلما حظر عليهم إقامة أي نشاط في المؤسسات العسكرية والنقابية، حسب شروط الجبهة. "ثغرة" استثمرها الحزب الشيوعي فاقام مهرجانات مهمة مثل "أسبوع التضامن مع تشيلي" الذي عقد في جمعية الفنانين التشكيليين. كذلك استثمر الشيوعيون وجود النوادي الطلابية في الكليات مثل كلية الآداب والزراعة والجامعة المستنصرية، والنوادي الاجتماعية كنادي العلوية وعشتار والتعارف وغيرها لإقامة أماس استقطبت جمهورا عريضا من الشباب والشابات وأسهمت في رفع رصيد الحزب جماهيريا. شاعت أخبار تلك المهرجانات وأصبح حضورها يزداد يوما بعد يوم مما أثار حفيظة السلطة واخافها. دفعها الخوف الى عقد اجتماع خاص بقضية الشعر الشعبي في المكتب الثقافي للقيادة القومية لحزب البعث. تقرر في الاجتماع تشكيل لجنة طارئة مهمتها التحري عن هذا الذي يسمونه "شعر شعبي" برئاسة عبد الكريم مكي. اول ما قام به رئيس اللجنة هو ان اشرف بنفسه على مهرجان الشعر الذي عقد بالناصرية عام 1973. ولأول مرة بتاريخ المهرجانات الشعرية صارت القصائد تخضع للفحص والتدقيق وتم ابعاد الكثير منها.بعد ان شاهد عبد الكريم مكي بعينه ان لا رصيد للبعثيين في تلك المهرجانات قرر الغاءها الى الابد. وبعد اشهر من المداولات بينه وبين حزبه، قرر تشكيل لجنة خاصة ضمت عددا من الشعراء البعثيين مع مسؤولين أمنيين لوضع تصور كامل عن الخارطة السياسية للشعر الشعبي. وضع المجتمعون على الطاولة خارطة دارية للعراق مع قلمي "ماجك"، احدهما أحمر والآخر أخضر وقائمة بأسماء الشعراء في كل محافظة. كان احدهم يقرأ الأسماء وتقوم اللجنة بتحديد هويته السياسية. فان كان شيوعيا توضع نقطة حمراء داخل حدود المحافظة التي ينتمي اليها، وخضراء ان كان بعثيا. وهكذا تم تلوين كل المحافظات العراقية. بعدها رفعت الخارطة الى القيادات الحزبية الأعلى التي حين شاهدتها مكتظة بالأحمر عدا نقاط قليلة بالأخضر لا تتجاوز عدد اصابع اليد الواحدة، أصدرت قرارا بحظر الشعر الشعبي ومنع تداوله إعلاميا. كان ذلك في مطلع العام 1974.ظل ذلك الحظر ساريا على كل الشعراء الشعبيين عدا فلاح عسكر الذي تم إعفاءه من الحظر بعد ان وقّع على صك ان يفدي عمره "للريس وصدام"! ولم يرفع بشكل كامل الا في بداية عام 1980 مع بدء قرع طبول الحرب مع ايران. عاد الشعر الشعبي لكن ليس مثلما كان. فقد حل نوع آخر منه شاحب اللون مغمسا بالردح والضجيج يمجد الطاغية ويتغنى برائحة الدم والموت والخراب، فليته لم يعد.
سلاما ياعراق :البعثيون والشعر الشعبي
نشر في: 2 إبريل, 2012: 09:10 م