فاروق صبريكلما أشاهد نصير شمّه يعزف على أوتار عوده تحضر أمامي أمنا العراقية الحنونة وهي تحتضن وليدها في فضاء نصب الحرية .وحين أرفع رأسي صوب جواد سليم في ساحة التحرير تقول لي تلك الأم الحاضنة لي ولأبنائها العراقيين : أنظر كيف يحتضن نصير شمّه ألة عوده مثلي ، ولا أعرف مَن تناصى مع مَن في دفء وعذوبة الإحتضان !!!؟
ولكن من المؤكد أن قلوب المبدعين "سواجي" لذلك خلق هذان المبدعان في روحي هذا الاحساس المتألق.إحساس يمتزج فيه الجمال والحزن والحلم يغمرني دائماً في حضرة عود حفيد زرياب نصير شمّه ونصب حريتنا التي تغيّبها عقول التخلّف .والبارحة لأكثر من ساعة عايشت هذا الإحساس الجميل وأنا استمع لهذا الساحر المتألق نصير شمه وهو ينثر نسمات "مقام دشت " الكردستانية باوتار عوده ، بها وعبـر روحها العذبة صعدنا سفوح هندرين وركضنا بين سنابل شهرزور وتيممنا بمياه شلالات علي كلي بيك وفاحت في روحنا ابتسامات " كولاله سوره" الأذارية .بأنامل ساحرة قادنا نصير شمه إلى طقس موجع حيث بغداد عاصمة الروح وهي تبتسم برغم غبار الحروب وقسوة الطارئين القدماء والجدد ، تلك الابتسامة أضاءت قاعة الشهيد سعد عبدالله المشرقة بمحبة أربيلية متفردة ، بللت تلك الأوتار الساحرة أرواحنا برذاذ أذاري ، وفي اللحظة ذاتها كنا أيضا نتجول بين الرصافة والكرخ ، نجلس قبالة تمثال الرصافي ولكن كيف لنا السير عبر شارع الرشيد القتيل المغدور ونغمات نصير شمه تواسينا وتحرّضنا على المشي لنصل (أبو نؤاس) ونقرع كؤوسنا بكأسه المترع بالشعر والأغاني والحلم ، كي تنهض بغداد من رماد الماضي والحاضر.هذا الساحر نصير شمه لم يدعنا ساكنين داخل الطقس البغدادي الموجع والحالم ، سار بنا إلى " شقلاوة" وفي طريقنا إليها صعدنا سفوح " سفين" وتفيأنا تحت شجرة البلوط الشامخة قرب "دير الربان بيا" نشاهد دبكات الأشوريين ، وأنين " الشمشال " الكردي ، وبخفة وحيوية روحه وريشة عوده فوجئنا ونحن في حضرة " كلكامش" حيث انكيدو يجلس إلى يمينه وعشتار إلى يساره وراقصات يتمايلن كسعفات نخيل تحرّكها الرياح ، في لحظة ما ونصير يعزف شعرت، بل تيقنت أن ريشة عوده صارت زهرة الخلود التي سرقتها الحية من يــد كلكامش!لكن نغمات الساحر نصير شمه أعادت تلك الزهرة من حلق الحيّة ، حيث فاح أريجها في أرواح شهداء " حلبجة " نهضوا ليطردوا من سماواتهم رائحة التفاح ويعلنوا بدء حلم بحياة أجمل ، لا مكان فيها للقتلة والطغاة .ومع ضربات أوتاره الأخيرة ظلّ نصير شمه حاضناً عوده مثلما ما زالت "أم" نصب الحرية تحضن وليدها برقة وحيرة وهواجس عراقية سرمدية .
الساحر
نشر في: 4 إبريل, 2012: 10:54 م