صفاء خلف امضيت ليلتي الاولى في اربيل قادما من بغداد للمشاركة في النسخة السابعة من معرض اربيل الدولي، بين مليون عنوان، بعد رحلة ليلية، مشاركاً بجناح لدار الغاوون، وجدت ان المسؤولية كبيرة تجاه المتعلقين بعصر التكنولوجيا الذي ابعد الانسان عن ارضه البكر في التفكير وجعل عقله معلباً ومعبأ في الصورة، الصورة التي تقتحمه دون اذن، فتحتل وقته وتسطح معرفته، خالقة فجوة عميقة لا يمكن ردمها الا بالعودة الى الكتاب.
حين تغص اروقة معرض الكتاب يوميا بالزوار، اجد نشوة حالمة، في ان هناك من يقرأ؟، هناك من يهتم بثقافته ومعرفته، رغم ان الحياة لم يعد فيها متسع للتفكير والهدوء، باتت صاخبة وسريعة، غير ان هناك حنينا فطريا الى الكتاب، بوصفه جليساً اثيراً، لا يمنح نفسه الا اذا منحناه ذاتنا.القراءة خيار، والانتماء الى الثقافة تجربة مترامية، لا تقف عند حد معين، وتشترط ان تكون منفتحاً وواعياً ومتفهماً ان هناك رأيا ما قد يخالف رأيك، او لربما يضعك في كرسي التشكيك، او يعبر بك من ضفة الطمأنينة الى ضفة القلق.الان، اجد ان العالم بات ضيقاً، لم يعد هناك متسع لتقبل الافكار، باتت العقول معاقة بنمطية الفهم والانتماء، العالم يشهد "ردة" مريعة، فانهيار الانسان يكمن في ابتعاده عن استثمار العقل، مقابل تعطيله، فالماكنة الدعائية الضخمة، باتت تنتج افكاراً سطحية، او تعيد انتاج التخلف على انه خطاب هوية، ما دامت الهوية اضحت منطقة دفاعية محصنة، تتقوقع خلفها مجتمعات طائفية وعنصرية.اشكالية انتاج الكتاب في عالم هيستيري تبدو مهمة محكومة بالتشكيك، فمهمة إنتاج وعي جديد معاصر يحتاج الى ادراك عميق لحجم الازمة مقابل ماكنات عملاقة تعيد انتاج التخلف والتظليل والخرافة الدينية والطائفية من جهة، ومن جهة اخرى اللعب على الكبت الجنسي العربي في تحويل الجسد الى غاية كبرى، لذا الكتاب بدا وحيداً، وما يحاوله الكُتّاب، هو محاولات رمزية لحماية الانسان من التشوه الذي لحق بروحه.الكتاب عربياً، انتقل من المقولات الكبرى، الى المقولات الصغرى، بات يهتم بالهامش، لم يعد يعنيه المتن، طالما ان المتن صار حجارة صلدة تتكسر عليها روح الانسان، فالاشتباك اليوم بات بين الفكرة ونقيضها، ويقال ان الضد يظهر حسنه الضد، فهذا العالم الذي ضاع الانسان في اتون عراكاته، عليه ان يعي تماماً ان عالمه هش وفقير، طالما هو تخلى عن ادراك مهمة وجوده فيه، فالكون ليس سوى مساحة للتنفس. غير انها تتحول الى مساحة للخلق حين يعي الانسان ان قيمته تكمن بنتاجه العقلي فقط. والفكرة ونقيضها ببساطة هي التحول من الاستسلام للقناعات الى صنع قناعات جديدة، الكتاب يمنحنا فرصة ذهبية لتغيير القناعات لا ترسيخها.ما يخشى عليه حقاً، هو ان تكون الكتب سلاح التخلف، فهناك من يعمل على اعادة انتاج الضغينة عبر الكتاب، اللحى السوداء الكثة وجدت في المناخ الديمقراطي، مجالا حيوياً في الدخول الى بستان المعرفة، فزرعت الاشواك على الطريق اليه، في الوقت نفسه انها لا تسمح للفكر الانساني الحر بالتنفس، لانه لا مقدس يحمي العقل سوى العقل نفسه، ولأن مهمة هذه اللحى ان تقمع العقل لصالح لإلغائه.نحن لا نملك، سوى العقل والكتابة لمواجهة غول التخلف والسطحية، صرنا اليوم في ثقب اسود هائل، ما بين من يريد العودة بنا الى الكراهية التاريخية والخصومة المقيتة، وبين من ينتج الغريزة بوصفها "سلعة بيضاء" تختفي وراءها الالام وحيوات مصادرة. لذا لا تتركوا الكتاب وحيدا. وفي صنعة الكتاب، حكاية، فالكتاب هو عالم له فلسفته، وهنا احتفي بكتاب لصديقي الشاعر والتشكيلي العراقي ناصر مؤنس، بعنوان (في كراهيّة الكتابة) الذي صدر عن دار اسسها في هولندا، قبل ايام، ويقول في متنه مؤنس "الكتابة تفسد الكتاب هذا ما يقوله بياض للآخر، لم يقلقني في يوم من الأيام اختفاء الكلمات من كتاب، دائما كنت أفكر بأشكال لا حدود لها للكتاب، البياض لوحده كتاب، السواد كتاب، التلاشي، الرماد، النار، التراب، الماء، الأحلام، الجدران، الدمع، النقطة، والنسيان كتاب".رؤية غريبة للكتابة، عودة الى الاصل، في ان الكتابة هي فكرة، ومن ثم صورة، وكما تقول الصديقة الشاعرة تغريد عبد الله (شكرا للكتب , المناعة الضوئية للعتمة).
لا تتركوا الكتاب وحيدا !!
نشر في: 10 إبريل, 2012: 09:42 م