طه حامد الشبيب في وقفة تحليلية لأسباب الكارثة الثقافية التي حلت في العراق منذ عام 1979، كنت أقول إن الدكتاتورية، وبحرفية عالية، تمكنت من اكتشاف الخطوة الاولى الضرورية لهدّ البناء الثقافي في المجتمع، ضمن ستراتيجية لحماية النظام الدكتاتوري.فنظام كهذا، كما هو معلوم ينمو ويترعرع ويزدهر في كنف الروح الثقافية من الانسان، بمعنى آخر،
تبقى الدكتاتورية وتعمّر اذا ضمنت خواءً ثقافياً في المجتمع الذي تحكمه، وعلى وفق هذا الفهم سجلت الدكتاتورية في العراق أهم نجاحاتها حين أبعدت الفرد (المواطن) عن الكتاب عنوة، ولا اتحدث هنا، طبعا، عن حزمة السياسات والممارسات التي كانت تُفضي الى مآلها الأخير الى هذه المحنة التي ستكون مرّكبة فيما بعد.. لا.. لا اتحدث عنها، على الرغم من اهميتها وجوهريتها، ولكن اُريد تركيز قولي على ما أسميته (الخطوة الاولى الضرورية لهدّ البناء الثقافي). فلقد اكتشف النظام الدكتاتوري ان خطوته الاولى في هذا المجال تكمن في غلق (المكتبة المدرسية).. تلك التي كانت موجودة كركن مبرز من اركان المدارس المتوسطة والثانوية في العراق، لم يكتفِ بغلقها، وانما ذهب أبعد من ذلك فأحالها الى مخزن لـ(عفش) المدرسة العتيق، وبذلك محا كلياً صورة (الكتاب غير المدرسي) من أذهان النشء، انه بذلك انما أنشأ جيلا جديدا بعيدا كل البعد عن آليات الحراك الثقافي الانساني، وبذلك أيضا تحوّل هذا الجيل(المصنـّع) الى جيل منزوع الذائقة بعد ان تحول الى جيل من الكائنات البايلوجية الآكلة الشاربة المتناسلة.. جيل غرائزي بحت، فتدهور عند ذاك الانسان بوصفه كائنا نوريا، وهنا نام الدكتاتور ملء جفونه، إذ عَلِم عِلمَ اليقين أنه سيؤبد.تذكرت مقولاتي هذه، التي كنت أُرددها على مسمع مَن بهم صمم، حيث رأيت مجموعة كبيرة من تلاميذ المدارس في أربيل يهبطون من حافلة طويلة في طريقهم الى وابة بارك سامي عبد الرحمن حيث يُقام معرض اربيل الدولي للكتاب بجهد متميز من مؤسسة المدى الثقافية، وبرعاية حكومة اقليم كردستان، كانت بمعيتهم مدرساتهم، وكانوا جميعا بأبهى زي موحد. فعببت من هواء ذلكم المكان ما استطعت، وكأني اتهيأ لإطلاق صرخة فرح عارمة أردت لها ان تدوم ما حُييت , إذ أخيرا صار بامكاني أن أتلمس طريقي صوب تحقيق الحلم، والحلم بوسعكم أن ترونه لا يعدو ان تعبّر عنه بضع كلمات: لقد ابتدأنا اليوم، اليوم فقط، في غلق آخر الابواب من دون عودة الدكتاتورية.أجل، فهذه خطوة هائلة تتحقق في كردستان الحبيبة، وانا واثق من انها ستلحق بخطوة اعادة الحياة الى المكتبة المدرسية، اذ لا سبيل الى بناء الحياة إلا ببناء الانسان ولا سبيل الى بناء الانسان (الكائن النوري إلاّ بتسليك الطريق أمامه نحو الكتاب (غير المدرسي).أنا سعيد.. باختصار أقولها.. انا سعيد لست لأني زرت معرضأ دوليا للكتاب ناجحاً،بل لأني كحلت عينيّ بمرأى تلكم الحافلة المباركة.. باص التلاميذ المبارك.واختتم بسؤالي أولي الأمر في العراق (الجديد): أما آن الأوان لتنظيف قاعات المكتبات المدرسية في متوسطاتنا وثانوياتنا من (عفش) الدكتاتورية العتيق؟!
في معرض أربيل الدولي:صورة ثلاثية لأبعاد الثقافة العراقية
نشر في: 11 إبريل, 2012: 10:17 م