اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > انا ومحمود صبري

انا ومحمود صبري

نشر في: 14 إبريل, 2012: 08:06 م

رفعت الجادرجي كنا نذهب إلى دار فائق حسن، و قد استصحب كل منا معه شيئاً من المأكولات و الكحول. كانت نقاشاتنا تتشعب، فنسترسل و نستطرد، و تطول الأحاديث و تتكرر الفكاهات، لكن الوضع كله فيه كثير من الجدية و الإخلاص. كان محمود صبري قد أقام معرضاً لرسومه، فعرض لوحات ذات مواضيع سياسية منها السجين. كان النقاش يتناول موضوع الفن. و هل يجوز إقحام مواضيع سياسية في الرسم أو الفن أصلاً؟
كان جواد يرتاد هذه الاجتماعات قليلاً غير أن موقفه واضح يتلخص بأن الفن يجب أن يكون بعيداً عن السياسة، و ان الفن يجب أن يتطور نحو تكتيك معاصر، على أن لا ضير أن يكون له طابع عراقي بشرط أن يبتعد عن الرسالة الاجتماعية و إلا أصبح سياسياً و فقد وظيفته الفنية و صار عبارة عن ممارسة سياسية.و كانت حجة محمود صبري و قتيبة الشيخ نوري بشأن هذا الموضوع تتلخص بأن كل عمل أو ممارسة يكون الفنان يدري أو لا يدري أن له دوراً سياسياً و سواء شاء الفنان أم أبى. و عليه يجب أن يتوفر لديه الوعي ليقوم بمساهمة تناسبه. أما أنا فكنت أقول أن للفن وظيفة اجتماعية لا يمكن تجنبها، و لذا على الفنان أن يكون مدركاً ليتخذ الموقف المناسب شريطة آلا ينزلق و ينجرف و يتناسى الناحية التقنية، فيصبح عمله سياسياً. و قد وجدت موقفي أقرب إلى نظرة محمود صبري، لذا تطور بيننا وئام فكري، فأصبحنا صديقين. محمود صبري شاب طويل، رشيق القامة وسيم الوجه، خافت الصوت و قليل الكلام، و إذا تكلم أو أنصت ابتسم. وديع و لكنه إذا حمى وطيس الحديث، أو إذا جرى المساس بأي شكل من الاشكال بالحركة التقدمية، فإن محمود الوديع هذا يتحول عند الاقتضاء إلى شخص آخر. و هو حتى في هذه الحالة لا يثور ثورة طائشة بل لا تخلو عبارته من القسوة و الحدة و من الحدية الدفينة في أعماقه.كان توجيه الفن نحو المساهمة في الحركة التقدمية بحيث يصبح جزءاً منها هو بالنسبة لمحمود هدف لا نقاش فيه. كان هذا موقف محمود على الصعيد السياسي. أما على الصعيد الفني فلم يكن محمود بنظر جواد و فائق أكثر من هاو و مبتدئ، إن تكنيكه في الرسم و الألوان و التكوين ضعيف و من أعمال الناشئين. و لكنه كان أول من هز بحق الفن العراقي هزة الإيقاظ من سباته في الرومانتيكية الريفية.كان محمود موظفاً في مصرف، و اتخذ من الفن هواية له يقضي به أوقات فراغه. سرعان ما تطور الأمر لديه، فبدأت هواية الرسم تحل محل الفعاليات الأخرى و أخذت تشغل عليه تفكيره و وقته حتى أصبح عمله في البنك، بل حياته العامة و الخاصة، شيئاً ثانوياً، و ليس سوى متمم لما كان يزاوله في عالم الرسم. صار محمود يواصل الرسم دون انقطاع في الأمسيات، و يستمر إلى وقت متأخر من الليل حتى تنهك قواه، و هو شخص لا يتعب سريعاً. فتقدم تكنيكه و تطور، بدأ عمل محمود و موقفه من الفن يؤثر في الفنانين الآخرين من حيث يعلمون أو لا يعلمون، و أخذ يقودهم نحو قناة جديدة من فن يعكس حياة اجتماعية ذات واقعية معينة بل ذات صبغة خاصة هي صبغة الثورة العمالية الفلاحية كما يتصورها محمود نفسه. و أخذ الفنانون الآخرون، بادراك منهم لهذا الاتجاه أم بدونه. يعملون ضمن فن واقعي ذي صبغة معينة. و قد تجلى هذا بعد ذلك في أعمال فائق في مواضيع مثل بيوت الشعر و الأعراب في مضاربهم و الأعرابي مع دلة القهوة و الأعرابيات الساذجات. و تجلى كذلك في أعمال جواد في مواضيعه البغدادية مثل "البغداديات" و "ليلة الحنة" و "القيلولة" و في عمل زيد صالح في الحصان العربي.أما في عمل محمود صبري فنجد العامل بعضلات منتفخة تكاد تتفجر حيوية، و الفلاح النحيل الطويل و هو يتوجس بانتظار مصير آخر في عهد جديد.هكذا تطور الفن في العراق في منتصف الخمسينات، و كان التطور حصيلة عوامل كثيرة منها تطلعات جواد في الفن القديم و لو بصفة المشاهد المحلي للأحداث دون مساهمة فعلية فيها. و لكن الأكيد هو أن لمحمود صبري قسطاً كبيراً في دفع الفن نحو اتخاذ سمة و طابع و مفهوم يعكس واقعاً اجتماعياً- سياسياً هو في طور التأهب للتغيير. و لم يقتصر الأمر على تأثير محمود بالفن، بل أثر كثير من الفنانين العراقيين في محمود بصورة متبادلة، حتى انقلب فنه من ذلك النوع الهاوي، الواهن تكنيكياً، إلى فن متمرس له طابعه المتميز و خوصيته الفذة.ماذا كان الوضع قبل محمود صبري؟ كان الفن يدور حول مواضيع ريفية، فإذا ما خرج عن هذا النطاق فإنه يعالج صور الأشخاص "البورتريت" فيما عدا جوادمقتطفة من كتاب (الأخيضر و القصر البلوري) الذي كتبه رفعة الجادرجي في سجن ابو غريب 1980

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram