ياسين طه حافظ زيارتي الأخيرة لبصرة الأدب أرتني المدينة بواقعها المحشوّ بالأعاجيب وبالحب المحاصر ونداءات الاستغاثة الميتات على الوجوه وعلى الأبواب والأرصفة ، تلك الأرصفة التي نتأ طابوقها وحجارتها تستغيث . وارتني في البصرة شباباً وكهولاً يعملون وقّادين في ورش الشعر والكتابة ، يصهرون أفكاراً وعواطف ومتاعب يومية ليكتبوا في ظل الحداثة قصائد .
أتابع قدْر ما يتيسّر لي كتابات أصدقائي في البصرة ، مشغل اللغة الأكبر ، كما في أي مدينة في البلاد العطشى بين نهرين . ابحث في المحاولات الجريئة لاقتحام الغاب، ابحث عما يبشر، عما يفرح، عما يجعلني أصيح: عظيم هذا منك يا صديقي ! هذه المرة قرأت مجاميع من هداياهم ، رطباً بصرياً نزل تواً وما يزال يحمل تحت إهابه دفء الشمس . قرأت لكريم جيخور وقرأت لعبد السادة البصري وقرأت لإيمان الفحام "المحشوّة بالياقوت" ، حسب وصفها ورضاي عن هذا الوصف ، وقرأت لأبي عراق ، علي ، الشغيل وافر الطاقة ، وقرأت لبلقيس المحترمة الخجول وقرأت لصبيح عمر هادئاً مثل عاشق لا يجرؤ ، ولعلي الإمارة الذي اعرفه من قبل . هي رزمة كتب للأشعار ، لحماسات الانجاز والسعي المخلص للأفضل . فرحي بهم أصدقاء يواصلون الفعل ، مصرين على أن يزرعوا السباخ ، التي مات فيها الزنج ، بانتصارات أشعارٍ وقصائد . فرحي بالاجتهاد البكر هناك ، يوازي احترامي للكتابات الجديدة التي نقرأها مترجمة أو التي أكملت من زمنٍ سنوات النضج . فرحٌ هنا وفرحٌ هناك. بعد هذا ، أرى مفيداً أن أقول بما يستوقفني ، بما يمنحني رضا خاصاً وسعادة شخصية فأنا لا أقول هنا أحكاماً ، ولكنها مباهج . أنا لي اهتماماتي التي ابحث عنها ، ومن هذه ، قصائد الشاعر ، الذي فلتت منه إشارة ضوئية والذي تفرّد بأجوائه وحاول أن يحدد له حقلاً زرعُهُ مختلف . مفرح هو كلما ابتعد عن التكرار وللمستقبل بعد ذلك رأي . وجدت بعضاً من هذا "فيما يقترحه الغياب " قصائد هذا الديوان تحمل غبار الشارع وعرق الناس وحرارة الصيحات فيها مثل قوله: " رائحة الخانات وعطن الحنطة" وهو أرانا والده المتوفى حين كان "يحمل في الشارع سطلي لبن". ياللقطات الحية، مثل: "أطلق فوق النفايات روحه المرحة" وقوله "للعماريين وجوه تلبط فيها الأسماك .." مهمة هذه الحيوية في القصيدة تمنيت أن يكون الديوان خزانة لهذه الصدمات ، لهذه الخامات الحميمة . لكنه يضيع في الزحام ويأخذه الموج .. هذا انتباه حيّ مطلوب في الأدب ومطلوب التصاق الكتابة بالحياة التي تمشي على الأرض . وبلقيس خالد ، المحترمة النائية بنفسها عن الصخب . تودع أشجانها وانتباهاتها بأطباق صغيرة من زجاج شفاف ، هي تستعين بالهايكو وتبحث عن قربى بدارميات الجنوب . كل المحاولات تُحْتَرم فلنحاول أي تجريب . المهم أن نتطلع إلى الحقيقة الشعرية والدلالات الأبعد مما لا نريد الانقطاع عن انتظاره . وأنا لا أبيح سراً إذا قلت : إن قراءتي لديوان كريم "ربما يحدّق الجميع" ، أرتني كريماً في الشعر أصفى ، أكثر أناقة وأجمل من صورته عندي قبل أن أقرأه اليوم . هذا يعني أن انطباعاتنا عن الناس ليست عادلة دائماً إننا لا نراهم دائماً بوضوح. هو ديوان مُنَظّم بعناية . بقي أن أقول : الإحساسات الصغيرة ، محدودة المساحة والأفق ، لا تصنع شاعراً كبيراً . فكروا أيها الأصدقاء بموضوع اكبر ، بمساحة أوسع . الانتباهات الجمالية والإحساسات الصغيرة تدخل في نسيج العمل الكبير والحياة حولكم هائلة المساحات والأفكار . مجموعة صديقي علي الإمارة "لزوميات الخمسميل" تحيلني إلى ما كتب من قبل فأشعر برغبتي أن أظل هناك . لقد كان الإمارة يمتلك طاقةً تجريبية أطلّتْ في ديوانه السابق واختفت . لا اعتراض على كتابة القريض في زمن الحداثة ، ولكننا صرنا لا نستسيغُهُ لِقِدَمهِ . أفترضُ أن الإمكانات التعبيرية والقرب لأجواء الحداثة وحماسات الحركة الشعرية ، تهب الشاعر شعراً معاصراً أكثر مما يمنحه الوقار وروح المحافظة . لكني هنا أشيد بتقنية لم تُسْتَثْمر . اعني صفحات النثر تقديماً واختتاماً . شعراء كبار يمهدون الأجواء للمقاطع الغنائية ويتحدثون من بعد عن دائرتها . فعل مثل ذلك ميووش البولوني الأصل ، صاحب نوبل ، الأمريكي من بعد في ديوانه "شروق الشمس". هذه الكتابات السردية تتولى مهمة التوجيه والكشف . بداية ذكية للإمارة لن يكون لها شأن إذا لم تكتمل ! عذراً، مجموعتك الأولى متقدمة كثيراً على هذه . بقي أن أقول له ولنفسي ولجميع الأصدقاء نحن إما أن ننتمي للفن والإنسانية والفكر الحر أو ننتمي للسوق حيث لكل بضاعة ثمن ! أما الرجرجة في الوسط فهي تلَفٌ تدريجي للنفس وللفكر والإبداع . ليس لنا إلا أن نختار ! لا أدب
حدائق البصرة التي لا تُرى
نشر في: 15 إبريل, 2012: 07:12 م